تستهويني دائماً وأبداً حكاوي وحواديت الزمن الجميل, ولعل مرد ذلك الإحساس العميق أن ذلك الزمان تميّز بقيمة الصدق, الصدق في الحديث والصدق في التعامل والصدق في علاقات الناس مع بعضهم ومع ربهم, والعبادة القاصدة لوجه الله, العبادة التي لا يُبتغى من ورائها إلا وجه الله الكريم, ولأن تطور الحياة وإيقاعها السريع الخاطف بالتأكيد له إفرازاته السالبة وإسقاطاته وضحاياه من بني البشر بالذات، ما يمس قيمه وأخلاقياته وتقاليده الراسخة, فإن هذه الهرولة للحاق بإيقاع الزمن السريع تفسح المجال واسعاً أمام الإنسان للتنازل والتنافس الشرس المحموم للامتلاك ولا يهم بعد ذلك إن كانت الوسيلة شريفة وشرعية أم غير ذلك.. ولا يهم كذلك المصدر من أين جاء وإلى ماذا ينتهي, أن نملأ الجيوب والبطون والسلام وهذا الحكم بالتأكيد لا يعم, فبيننا القابض على دينه وقيمه كالقابض على الجمر, وبيننا في أمة الخير لا ينقطع العشم ولا ينتهي الخير وذلك أمر محسوم من معلّم الإنسانية الأول رسولنا عليه الصلاة والسلام (الخير فيّ وفي أمتي إلى يوم القيامة). في هذا البصيص من النور الذي يسلك طريقه الشُرفاء سرد لي الأستاذ أحمد عبد اللطيف المعتمد الأسبق لمحلية حلفا الجديدة، وهو صاحب خبرة إدارية وسياسية وتجربة ثّرة في الحياة اكتسبها من خلال من خلال عمله كضابط إداري في أول أيامه ثم سياسياً لامعاً في عهد مايو, حكى لي أنه وفي اليوم الأول من تعيينه ضابطاً إدارياً بالوحدة الإدارية بمصنع سكر حلفا الجديدة، والتي تتبع حتى الآن لمحلية حلفا؛ قال: "حضرتُ للبيت مزهواً بالوظيفة الجديدة وبزي الضباط الإداريين المميز، يستهويني شبابي", فقال إن والده المرحوم عبد اللطيف فرج الله سأله ماذا يعني ضابط إداري؟ أهو المأمور في زماننا الغابر؟ فقلت نعم, فقال موجهاً نصيحة أبوية: "عليك أن تتحاشى حق الدولة", أي لا تقترب من المال العام وتحوله لمصلحتك, وذكر أنه شاهد نماذج من الذين استباحوا المال العام، وكيف كان مصيرهم سيئاً, والعبرة كما قال المرحوم عبد اللطيف: (أنك يا أحمد إذا أكلت حق زول معلوم فيمكنك أن تراضيه وتفوز بالعفو منه ولكن أين ستجد الشركاء في المال العام وتطلب منهم العفو والمغفرة) باعتبار أن شركاء المال العام هم من المواطنين الذين لا يتسنى لك معرفتهم, هذا غير أن في هؤلاء الشركاء الأيتام والأرامل والضعفاء وأولياء الله الصالحين ودعوة هؤلاء لا تُرد وليس بينها وبين الله حجاب. في هذه الحكاية عبرة واعتبار موجّه لكل الذين يعتلون عتبات الوظيفة العامة وسلم الوظيفة, صغيرة كانت أم كبيرة, أن نتقي الله أولاً في أنفسنا حتى لا يتسرب السُحت لأبنائنا وذُرياتنا من بعد, وأن نتقي الله في عباد الله الذين يزدريهم البعض وربما فيهم الأشعث الأغبر الذي لو أقسم على الله لأبرّه, وفيهم الضعيف مكمن سر الله.. والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل... محمد علي عبد الجابر السجل المدني