قوي البنية.. مفتول العضلات.. طويل القامة.. كان ذلك الرجل الأبنوسي هو أول من وقعت عيناها عليه عندما قررت أن تترك كل شيء وتتجه صوب الجنوب. هي لم تكن مجرد فتاة بل كانت معزوفة لحنية تصدح حبا في كل الأمكنة بيد أن الحياة وهبتها خيبات أمل متتالية. والدها الثري لم يحتمل خبر خسارة أمواله فمات بذبحة قلبية ولحقته والدتها بشهور قليلة، أما حبيبها فقد سقط قناعه فور سماعه نبأ إفلاس الأب وقرر الهرب منها إلى أول ثرية التقاها مخلفا لها تركة من الأسى ظلت تلقي بثقلها الباعث على الهذيان المقيت. هي أدركت أن الضعف موت يتنفس، فقررت مقاومة كل إحباطاتها بتكريس كل طاقاتها في العمل الطوعي. اختارت السفر إلى مناطق الحرب لمساعدة من أنهكتهم الصراعات في مخيمات النزوح بما تعلمته من إسعافات أولية. أول ما لفتها عند وصولها إلى هناك ترويضه لبندقيته التي بنظرة حادة يُلحقها بضغطة على الزناد تمكّنه من إصابة الهدف الذي كان حينها حجرا صغيرا فوق صخرة بعيدة لا يصيبها إلا محترف. رأت التفاف وثقة الناس حوله وسمعت عن شجاعته وقوته الكثير من الحكايات، فازداد تحريض فضولها لها على معرفته. كانت تقضي يومها في إسعاف المصابين الذين يتم نقلهم إلى حيث معسكرات لم يعد بمقدورها استيعاب المزيد بعد، كلما زادت أعداد النازحين كلما زاد عدد الشباب الراغبين في التجنيد الطوعي لدى الرجل الملقب بأسد الجنوب حتى وصل عدد جنوده بما يشبه جيشا قوامه آلاف. ظلت تراقب كل شيء.. تدريباتهم.. الأسلحة التي باتت بأيديهم من وراءه؟ وما سره الذي يخفيه؟ كل استفهاماتها لم تجد إجابة حتى جاءها أحد جنوده يبلغها أنه يحتاجها لإسعاف جرحى المعركة الأخيرة. لملمت كل ما يمكن أن تحتاجه من أغراض وذهبت برفقته.. عالجت البعض، لكن إصابات البقية كانت أكبر من إمكاناتها العلاجية المحدودة. فاتجهت نحوه لتبلغه بصوت حزين أنها فشلت في إنقاذ الجميع. لم يرد عليها إلا مطالبا إياها بالبقاء.. لم تستطع رد طلبه فشيء ما لا تعرفه كان يدفعها نحو الاقتراب لكشف غموضه. يمضي يوم وراء الآخر ويزداد إعجابه بعطاءها اللامتناهي لجنوده وتزداد هي رغبة في الاقتراب منه أكثر. ذات مساء اكتمل بدره سألها أن يكمل بها نصف دينه فأومأت رأسها بالموافقة بلا تفكير وصباح اليوم التالي أكملوا مراسم الزواج بما يشبه طقس واقعهم المرير دون أهازيج فرح.. لم يخرق ذلك الهدوء إلا أصوات رصاصات تعلن عن الزيجة التي نقلتها من خيمة مفردة إلى خيمة أسد الجنوب الذي دخل بفتاته في ذات الصباح وما إن انتهت الليلة حتى خرج استعداداً لخوض معركة أخرى. كل تفاصيله الظاهرية لم تكن تشبه لحظات السعادة التي عاشتها معه رغم كل شيء تلك اليد الخشنة كم كانت حنونة معها.. نظراته الحادة مع سلاحه، لم تكن تشبه تلك الغارقة جنونا في مضجعه.. من اللمسة الأولى أدركت أنها بداية حب امرأة لا تكترث لشكل النهايات. ما من شيء أقسى على امرأة من حب مقاتل.. حدثت نفسها في ليل انتظاره الموحش الذي لا يتبدد إلا بقدومه. هذه المرة عاد مصابا بطلقة في قدمه اليسرى فقامت لتطبيبه والقلق يقتلها خوفا عليه رغم سعادتها بالرصاصة التي أجلسته أياما بين يديها. في إحدى النهارات بينما كانت تعد له ولضيوفه المهمين الطعام كما أخبرها شعرت بشيء غريب دفعها للاقتراب من خيمة استقبال الغرباء. فسمعت ما جعلها تتسمر مكانها. مخادع.. خائن.. يتاجر بأهله وقضيتهم.. يا إلهي..! قالت لنفسها بصوت خافت دون أن تمكنها صدمتها من المغادرة. شعر هو بوجود شخص في الخارج فأمر حارسه بنظرة فهم من خلالها ما يريد فإذا به يجدها، ما إن رأته حتى ظلت تركض غير أنها لم تتمكن من الهرب. أنهى أسد الجنوب صفقته وذهب لرؤية زوجته التي قيّدها حارسه وأبلغها أن العالم ليس مثاليا كما تتمنى وأن القائد عليه إدارة البشر كما هم ليستفيد من خيرهم وشرهم لصالحه فالمتجرد لا يعيش طويلا مع متمرد وأنهى حديثه بجملة واحدة: الآن خيرك لم يعد في صالحي ثم قرر بعدها إنهاء حياتها برصاصة من ذات السلاح الذي لفتها إليه. بقلم رفيدة ياسين هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته