مرتزقة أجانب يرجح أنهم من دولة كولومبيا يقاتلون إلى جانب المليشيا المملوكة لأسرة دقلو الإرهابية    بعثة منتخبنا تشيد بالأشقاء الجزائرين    منتخبنا المدرسي في مواجهة نظيره اليوغندي من أجل البرونزية    إتحاد الكرة يحتفل بختام الموسم الرياضي بالقضارف    دقلو أبو بريص    هل محمد خير جدل التعين واحقاد الطامعين!!    كامل إدريس يلتقي الناظر ترك ويدعو القيادات الأهلية بشرق السودان للمساهمة في الاستشفاء الوطني    أكثر من 80 "مرتزقا" كولومبيا قاتلوا مع مليشيا الدعم السريع خلال هجومها على الفاشر    شاهد بالفيديو.. بلة جابر: (ضحيتي بنفسي في ود مدني وتعرضت للإنذار من أجل المحترف الضجة وارغو والرئيس جمال الوالي)    حملة في السودان على تجار العملة    اتحاد جدة يحسم قضية التعاقد مع فينيسيوس    إيه الدنيا غير لمّة ناس في خير .. أو ساعة حُزُن ..!    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    ترتيبات في السودان بشأن خطوة تّجاه جوبا    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    تحديث جديد من أبل لهواتف iPhone يتضمن 29 إصلاحاً أمنياً    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    ميسي يستعد لحسم مستقبله مع إنتر ميامي    تقرير يكشف كواليس انهيار الرباعية وفشل اجتماع "إنقاذ" السودان؟    محمد عبدالقادر يكتب: بالتفصيل.. أسرار طريقة اختيار وزراء "حكومة الأمل"..    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    "تشات جي بي تي" يتلاعب بالبشر .. اجتاز اختبار "أنا لست روبوتا" بنجاح !    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    أول أزمة بين ريال مدريد ورابطة الدوري الإسباني    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    بزشكيان يحذِّر من أزمة مياه وشيكة في إيران    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    مصانع أدوية تبدأ العمل في الخرطوم    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    شرطة البحر الأحمر توضح ملابسات حادثة إطلاق نار أمام مستشفى عثمان دقنة ببورتسودان    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءات في قضايا الحوار السوداني
نشر في السوداني يوم 13 - 05 - 2014

ربما يكون الغرض من دعوى الحوار بين القوى السياسية، هو وضع إطار عام للقضايا السودانية، تتمخض عنه صيغة توافقية لاقتسام السلطة بين الأطراف المتحاورة، دون الجد في تقديم رؤى لحلحلة تلك القضايا بشكل جذري. مهما يكن التحليل فإنه لا يمكن معالجة القضايا السودانية بمعزل عن أبعادها التاريخية، كما لا يمكن استبعاد التدخلات الأجنبية في تلك القضايا، وتأثيراتها عليها عند بحث هذه القضايا. ومما لا شك فيه أن لهذه الأمور أثرا في إيجاد تلك القضايا ، وتأثير على تفاقمها في هذا البلد، وما حوله من محيط، ولهذه الأمور أيضاً أثر في الإعانة على التوصل لأفضل خيارات المعالجة الجذرية. في وقت ينحو فيه العالم منحاً فكرياً حادة بعد سقوط القيم المادية الرأسمالية
* البعد التاريخي:
- إذا تم استبعاد مصطلح السودان بمدلوله الواسع، وأمعنا النظر في واقعنا الحاضر، انتهينا إلى أن الأجناس الزنجية والنوبية والعربية تمازجت فيما بينها، لتكون التركيبة السودانية المتميزة عن أي تركيبة في عالمنا المنظور. ولم تكن هذه التركيبة لتشكل مشكلة، ولا ينبغي لها أن تشكل مشكلة بأي حال من الأحوال، لأن الجنس ليس بفكر، ولا يصلح لأن يكون أساساً صححياً لفكر، ومن اتخذه أساساً إنما وظَّفه توظيفاً لخدمة أهدافه. و على أي حال لم تكن التركيبة السكانية السودانية سبباً من أسباب النزاع في هذه الربوع، ولم تنشب بسببها حروب بين أهلها، بل كانت عاملاً من عوامل التعايش والتقارب.
- وتفرد الجنس العربي بحمله للأفكار الإسلامية، التي انتشرت بشكل سريع وعلى نطاق واسع في السودان، كانت تلك الأفكار عنصراً مهماً في تكوين الخارطة الفكرية والسياسية للشعب السوداني، في فترة مهمة من تاريخ السودان. وإن كان الإشكال في نوعية الأفكار الإسلامية التي سادت في تلك الفترة، وهي الأفكار الروحية العبادية، فالاتجاه العام كان يتجه إلى حصر الإسلام في الشعائر ومراسم الزواج والأعياد، ولم تكن التشريعات مغطيةً سائر جوانب الحياة بالتنظيم، ولم تكن هناك سياسات واضحة لإدارة الشؤون الداخلية والخارجية. وبالجملة لم يكن الفكر الإسلامي مصدر صراع بين المجوعات السكانية السودانية، ولا بين من حولها من الجيران على تنوعها، على الرغم من هيمنة هذا الفكر على الحياة في تلك الفترة.
- وقد طرأ على الحياة السياسية والفكرية في السودان تطور جديد، وهو مد الحكم العثماني سلطانه إلى السودان، في وقت كانت الدولة العثمانية تمر فيه بظروف دولية عصيبة، وتواجه مشكلات داخلية كبيرة، من أهمها وأكثرها تأثيراً إساءة فهم أحكام الإسلام، وكيفية اشتقاق التشريعات من نصوصه، وعُزْي ذلك إلى ضعف آلية فهم النصوص (الاجتهاد) في تلك الفترة. وقد انعكس سوء الفهم على تطبيق الإسلام بشكل سلبي، وقد انتقلت هذه المشكلة مع الحكم العثماني إلى العديد من المناطق التي تمدد فيها سلطانه. ومن بين تلك المناطق وادي النيل ومنه السودان، وقد ولَّدت تلك المشكلة صراعاً بدأ فكرياً وسلمياً، ثم تحول لصراع سياسي وعسكري، بقيادة محمد أحمد المهدي رحمه الله،كأول قضية فكرية سياسية من نوعها في تاريخ السودان، كان لها أثر كبير في تكوين الكيان الفكري والسياسي السوداني فيما بعد.
* التدخلات الأجنبية:
- لم تكن الحملة الإنجليزية لإنقاذ غردون هي المرة التي يصل فيها الأوروبيون أو الإنجليز إلى السودان، فقد سبق ذلك حركات استكشافية الكبيرة قاموا بها حول إفريقيا وفي داخلها، خاصة منطقة البحيرات ووادي النيل، لأجل الحصول على معلومات عن هذه المناطق وقد كان. ولا نريد أن نذهب مع فرضية إغراء دول أوروبا للدولة العثمانية- التي تنازل على الحلبة الدولية - بالدخول إلى وادي النيل، بقصد إثخانها بالجراح، وبالتالي وقوع المهدي في فخ محاربة الدولة العثمانية بشكلٍ لا شعوري، لا نريد أن نذهب مع تلك، بقدر ما نريد أن نقف عند الأثر الذي أحدثه دخول الإنجليز إلى السودان وخروجهم منه.
- دخلت الأفكار الرأسمالية إلى السودان بوصول النفوذ الإنجليز إليه، ووجدت العلمانية لأول مرة فيه، ونشأت نظم سياسية وتعليمية ومالية وقضائية وإدارية جديدة، لم تكن معهودة لأهل السودان. وطبيعي أن تصطدم الأفكار والنظم الجديدة، بالأفكار والمشاعر الإسلامية السائدة في البلاد. وهذه هي المرة الثانية التي يوجد فيها صراع فكري وسياسي في السودان، ولكنه هذه المرة بين طرفين متناقضين، فإذا كان الصراع بين المهدي وأتباعه والعثمانيين كان موضوعه الإسلام إحساناً وإساءةً لفهمه وتطبيقه، فإن الصراع بين الإدارة الإنكليزية وأهل السودان موضوعه الرأسمالية والعلمانية والإسلام، ولو كان الوعي على الإسلام عاماً وليس دقيقاً على جزئياته في تلك الفترة.
- ولتحاشي الاصطدام بالرأي العام المشحون بالعداء للأجنبي، والمعبأ لمقاومته، عمد الإنكليز لسياسات ذكية لكسب الرأي العام، عن طريق استقطاب الرموز، وإغرائهم بالمناصب والألقاب، وتجنب إثارة الرأي العام واستفزازه، وعدم التدخل في تفاصيل الحياة. ولكن ذلك لم يكن كافياً، ولم يتجاوب الرموز مع الإغراءات بالقدر المناسب. وتبنى الإنجليز سياسة تقوم على تشجيع السودانيين على التعليم والدفع بالأبناء إلى دور التعليم داخل وخارج السودان، وبالفعل فتحت المدارس والمعاهد وجامعة الخرطوم، واعتمدت منهاجاً تعليماً مؤسساً على فصل الدين عن الحياة، واستدعت لذلك الخبراء والمعلمين وصرفت عليهم الأموال، وذلك بقصد تخريج دارسين على النمط الرأسمالي، ولتشكيل شخصية سودانية مطبوعة بالغرب الرأسمالي، وذلك لتكييف الرأي العام للقبول بالطراز الجديد للعيش. وقد استوعبت الإدارة الإنكليزية أعداداً كبيرة من هؤلاء الخريجين في الخدمة المدنية وأجهزة الدولة، كما شجعت أعيان المجتمع على التجارة واستثمار الأموال. وقد كان هدفهم من وراء تلك السياسات إخراج وسط جديد تتحكم فيه أفكار معينة، وينتهج أساليب سياسية موجهة في مقاومته أو معارضته لهم، والقدرة على السيطرة على كل من يخرج عن هذا الوسط، وقد نجحوا في ذلك نجاحاً كبيراً.
- إن إنجلترا كانت مستعدة لعمل كل ما من شأنه أن يمكنها من تحقيق ما جاءت لأجله في السودان، وإن أدى ذلك لضرب التركيبة السكانية سالفة الذكر، وإشاعة الفوضى وإدامة الاضطرابات في طول البلاد وعرضها، فعمدت إلى إيجاد التمايز بين الأجناس، وشجَّعت الجهوية، فوجدت قضية الشمال العربي والجنوب الزنجي التي أدت في النهاية لانفصال الجنوب عن الشمال، والغرب الفقير الذي يعاني التهميش وغير ذلك، ووعدت بعض القبائل بإقامة دول مستقلة، وبالفعل صارت هذه الأمور فيما بعد مطالب سياسية تتبناها كيانات ذات جذور إثنية وجهوية، وهكذا كان للإنجليز دور أساسي في رسم الخارطة السياسية للبلاد، عن طريق تهيئة الأجواء لصناعة الأفكار، ولبروز المطالب، وبالتالي ولادة المنظمات والرموز السياسية.
- معلوم أن إنجلترا لم تخرج من السودان بمحض إرادتها، وإنما كان ذلك بضغط من أمريكا وروسيا بعد الحرب العالمية الثانية، ومما لاشك فيه أن خروجهم من السودان قد صاحبته العديد من الأحداث، ولكن ليس ذلك هو المهم في هذا العرض، بل المهم هنا هو حالة الحياة السياسية التي ترك الإنجليز عليها السودان. فقد استمرت حالة الاضطراب الفكري والسياسي في البلاد، واضيف إليها صراع سياسي لكنه بغطاء عسكري في جنوب السودان، استنزف بشكل مفجع الموارد البشرية والمادية للبلاد.
- وكأنما الإدارة الأمريكية كانت تنتظر خروج الإنجليز من السودان، لتحل محلهم في تأزيم الأوضاع، وتغذية الصراع في جنوب السودان، بفعل وزنها العالمي ونفوذها الإقليمي في إخراج دولية مفصلية في جنوب الوادي. لتنهي فصول أطول وأكبر عمل سياسي لأعظم دولتين في العالم إنجلترا وأمريكا. لذلك نستطيع أن نحكم باطمئنان أن التدخل الأجنبي كان سبباً رئيسياً في انفصال جنوب السودان، وأن آثار هذا انفصال قد أوجدت حالة سياسية جديدة في البلاد لم تتضح معالمها بعد، ولكن أهم هذه المعالم ضرورة إيجاد نظام سياسي في الشمال يكون مهيئاً للعب دور في الاستقرار الإقليمي. ولكن لا يمكن التكهن بقدرته على إحداث استقرار على المستوى الوطني.
- إن انفجار الأوضاع في إقليم دارفور قُبيل 2004م، جاء بعد ما بات انفصال الجنوب في حكم المؤكد، ولكن عوامل انفجارها كانت جاهزة من قبل في أي لحظة، ويخطئ من يظن أن المشكلة في هذا الإقليم مجرد منازعات حول الموارد الطبيعية، وحساسيات جرت بين قبائل الإقليم المتنوعة إثنياً، إن المشكلة أكبر من ذلك بكثير، إن الإنجليز عمدوا إلى دس مفاهيم لدى المكونات السكانية في السودان، وتركزت هذه المفاهيم واستقرت في الأعماق حتى صارت كالأعراف، وتفننوا في توظيفها سياسياً في خلق الأزمات والاضطرابات في البلاد، وهذا جانبٌ مهمٌ جداً في قراءة هذه القضية. كما أن لأزمة دارفور أبعاداً إقليمية، نظراً لاشتراك دول إقليمية فيها وتأثرها بها، ولكن حتى الدور الإقليمي يتم توظيفه لخدمة مصالح الدول الكبرى. وعلى أي حال فإن في ما يجري في هذا الإقليم إنما هو عرض لا جوهر، أو هو أثر من آثار مشكلة كبرى يعيش السودان، وليس هو ذات المشكلة.
جوهر القضايا:
تتمحور القضايا السودانية في محورين أساسيين، وما عداهما مما هو مثار إنما هو أثر لتلك القضايا، وهو ليس جزءا ومنها، ولا هو جوهر تلك القضايا وحقيقتها، وعلى ذلك فإن الاشتغال في الأعراض والآثار ضرب من ضروب العبث إن كان عن حسن نية.
o المحور الفكري: إن عدم الاستقرار الفكري في مجتمعنا السوداني مرده بالدرجة الأولى، إلى أنه تتنازعه ثلاثة اتجاهات فكرية تشكل عقلية الوسط السوداني:
- الاتجاه الذي يميل للإسلام بوصفه فكرة كلية عن الحياة، وإن لم يكتمل لديه الوعي بالأفكار الإسلامية والنظم الإسلامية المتصلة بالمجتمع والدولة، ولكن لديه ميول ومشاعر قوية للإسلام، وهو اتجاه عامة الشعب السوداني وقواعد الأحزاب الكبيرة، ويقدِّر هذا الإتجاه الإسلام تقديراً كبيراً، وله تطلعات طموحة بأن يكون الإسلام أساس حياته.
- اتجاه اتخذ من الرأسمالية مبدأ له، واقتنع بها وبأفكارها، في الأسس بضرورة فصل الدين عن الحياة، وفي الأفكار السياسية بالمناداة بالديمقراطية والحريات، وفي الاقتصاد أنه لا بديل لديهم عن نظم وسياسات الاقتصاد الحر، وفي الاجتماع يشجع مفتوحية العلاقة بين الرجل والمرأة وغير ذلك. ويتشكل هذا الإتجاه من التكنوقراط، ومَنْ تثقف بالرأسمالية وتأثر بها في الداخل والخارج، ويحتل هؤلاء مساحة مقدرة من كياناتهم السياسية أو يشكلون أهم تياراتها. وهذا الاتجاه لا يلقى قبولا ترحيبا في الأوساط الشعبية السودانية المحافظة، نظراً لمصادمته الصارخة للإسلام، وتحديه للمشاعر العامة.
- السودانية خليط من الإسلام والرأسمالية، وهي بهذا المفهوم؛ أي السودانية تمثل إتجاهاً فكرياً لأغلب القيادات العسكرية والسياسية السودانية، فهو يتبنى الإسلام والشريعة الإسلامية بشكل عام، ويضع خطوطا عريضة وشعارات براقة، دون عكسها في الممارسة العملية، إنما مجرد خطاب يسيطر على الأجواء ويملأ الفضاءات، وهو في نفس الوقت يلتزم الرأسمالية في الممارسة السياسية والاقتصادية والسياسة الخارجية، وتجده يتناقض تناقضاً شنيعاً، فإذا كان الخطاب داخلياً وللشعب السوداني يكون الخطاب إسلامياً، وإذا كان الخطاب خارجياً أو إقليمياً أو في مواجهة خصوم سياسيين جاء الخطاب رأسمالياً.
o المحور السياسي: طبيعي أن تنعكس الحالة الفكرية السودانية المضطربة على الممارسة السياسية السودانية، فإذا كانت هناك فكرة لها مدلول واضح في الذهن لانعكست تلقائياً على الواقع، لأن السياسة عبارة عن التعامل مع الواقع من منطلق الأفكار.
- فإن عدم الاهتداء إلى فكرة كلية صحيحة لتكون أساساً لنظام يسير الحياة في سائر جوانبها هو جوهر القضية السياسية السودانية، فافتقار الوسط السوداني إلى الفكرية الكلية، هو الذي نتج عنه عدم التوصل لنظام حكم حقيقي، ونتج عنه عدم القدرة على تحجيم التدخل الدولي في شؤون البلاد، وغير ذلك من آثار القضية الحقيقية، كالقضايا الأمنية والاقتصادية.
- ومن الطبيعي ألا تبرز قيادات سياسية بالمعنى السياسي للقيادة، لهم القدرة على الانتقال بهذا الشعب إلى مصاف الرقي والتقدم، مع سيطرة الفكرة السودانية على الأذهان، فهل تفلح الفكرة السودانية في إنضاج القيادات، وبالتالي تقديم قيادات في مستوى طموح الشعب السوداني؟ وهل تستطيع الفكرة السودانية حل معضلات القضايا والتخفيف من آثارها، في الاضطراب الأمني والفقر والتخلف المدني والتقني والانحطاط الأخلاقي والقيمي؟ تُرى هل تصلح الفكرة السودانية لتكون أساساً لمعالجة كل ذلك؟
أطراف القضايا:
تربط القوى السياسية مصيرها بقضايا السودان، وتقوم بجهود متصلة لأجل تحقيقها، وإذا تجاوزنا نوعا هذه المجهودات، ونظرنا إلى نتائجها ومحصلتها النهائية، وجدنا أن القضية أو القضايا لم تراوح مكانها، إن لم تزدد تعقيداً، بفعل الممارسة السياسية غير الواعية، وافتقار المعالجات للنجاعة:
* إن البحث الواقعي يفضي إلى كمون السلطة في الفئة الأقوى من مجتمعنا، ومن أي مجتمع في الغالب، ويفضي أيضاً إلى مباشرة تلك الفئة للسلطة عملياً، لا لشيء سوى كونها الأقوى في المجتمع، وقد تتحالف هذه مع بعض القوى السياسية لتقاسمها مباشرة السلطة ولو جزئياً. والمهم هنا هو هل من المتوقع أن تنتقل السلطة من الفئة الأقوى إلى غيرها؟ ليس من المتوقع ذلك، وإن حَدَثَ، فإنما الذي ينتقل هو مباشرة السلطة من الفئة الأقوى إلى غيرها من القوى المجتمعية ولو بشكل كلي، ولا يمكن لهذه القوى الاستئثار بالسلطة في وجود الفئة الأقوى، وفي الغالب فإن ذلك يتم وفق آليات أصبحت أشبه بالأعراف في انتقال السلطة في الحالة السودانية.
* أما القوى السياسية فإنها تعيش حالة انفصام حادة، فهي رأسمالية النزعة ووصولية المنحى في مخاطبتها لقواعدها، وليس ذلك بمستغرب عليها لأنه صميم الرأسمالية، والأكثر غرابة هو استمرار القواعد في الانقياد لهكذا قيادة، رغم انكشاف تناقضاتها الفكرية، ودورانها حول السلطة لذات السلطة، ومداراتها لمن بيده السلطة، ومشاركتها له في العديد من الكوارث التي نزلت بالبلاد. ثم إن هذه القوى السياسية تفتقر إلى العمق التكتلي في إعداد قيادات قادرة على قيادة العمل السياسي، وتعتمد بالأساس على رموزها الذين تحجب سطوتهم كل مَنْ أراد البروز، وإذا ما قُدِّر أن مُكِنت من مباشرة السلطة، فإن الفشل سيكون حليفها لا محالة، لأنها تحمل بذوره في نشأتها التاريخية، وفي ممارستها السياسية، وفي عدم ذاتيتها في أخذ السلطة أخذاً مستحقاً.
* أما القوى الشعبية ففوق أنها لا تعي على أنها صاحبة السلطة، ومالكة للحق في إعطائها لمن ترتضيه، فإنها تظل تسلم قيادها للقيادات الحالية، رغم اقتناعها بعقمها، بسبب حاجتها الملحة لمن يملأ فراغ القيادة عندها، وأنها لا ترى بديلاً عنهم، ولعل هذا هو سر التدفقات الشعبية التي تشاهد حول القيادات، ويفسر سرعة الاحتشاد عند الشعوب الإفريقية عموماً والشعب السوداني على وجه الخصوص وما يشاهد من انبهار قطاعات من الشعب ببعض الرموز السياسية والفكرية، فإنه هذا الانبهار عرضي، لكونه من رجع الغريزة وسرعان ما يزول، ويمكن أن يكون بسبب مواهب وقدرات بشخص القائد، فهذه علاوة على أنها لم تسعفه طوال حياته السياسية في الخروج بهذه البلاد من نفقها المظلم، فإنها تجعل القيادة تدور حول شخص القائد لا شخصيته، وهذا هو محل فشل القيادات وعقمها، ومحل غفلة القوى الشعبية في انقيادها لهم.
فلسفة الحكم:
إن الحكم في حد ذاته فكرة ومبنيٌ على فكرة، وما الدولة إلا كيان يشرف على جعل المفاهيم التي اعتنقها أو اقتنع بها شعب من شعوب واقعاً تسيَّر به حياته، والمفهوم هو التصديق الجازم بفكرة من الأفكار. وهل كل فكرة تصلح لأن يبنى على عليها الحكم؟ لا وألف لا، لأن الشعوب لا تقتنع بأي بفكر من الأفكار، بل تميل لما يقنع العقل ويوافق الفطرة:
* إن الفكرة الإسلامية وحدها الصالحة لأن يبنى عليها الحكم، لموافقتها للفطرة الإنسانية، ولاقناعها للعقل البشري، فإن العقل كان سبباً في التوصل إليها، فهي عقلية في أساسها، ثم إن العقل يستخدم في فهم دقائق مصادرها. أما موافقتها للطبيعة التي خلق الإنسان عليها لكونها تتجاوب مع دواخله، وتنسجم معالجاتها مع الدوافع الفطرية لدى الإنسان في نظرته للدين وصلته بالحياة، وفي نظرته للمال حباً وكسباً وصرفاً، وفي نظرته للمرأة وعلاقته بها ميولاً إيجابياً، ونفوراً من الميول السلبية، وفي نظرته للقيادة من كونها فردية وعدم إمكانية أن تكون جماعية، وفي نظرته لضرورة العقوبة على تعدي النظام، وحتمية العقاب الأخروي حال الإفلات من العقوبة الدنيوية.
* إن أي شعب إذا اعتنق فكرية كلية، ليس من السهولة أن يتخلى عنها، لاسيما إذا كانت هذه الفكرة عقيدته التي يعتقدها، فإنه يربط مصيره بها، فموته وحياته بهذه الفكرة، واستعداده للتفاني من أجلها هو المؤشر الحقيقي لكونها فكرته، فإن اعتناق أي فكرة من الأفكار يرتبط ارتباطاً حتمياً بالتضحية من أجلها، يقول الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام:( يا عماه والله لو وضع الشمس على يميني والقمر على يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يُظهره الله أو أهلك دونه)، والأمر هو الحكم بالإسلام والتضحية إنما تكون لأجل إظهاره، أو أن الأمر هو ما جاء في الرسالة، وأن إظهاره لا يمكن أن يتحقق إلا بإقامة حكم يقوم على إظهاره، والهلاك إنما يكون دون ذلك. فالحد الفاصل في قضية الحكم عند الشعوب أن تعي وعياً دقيقاً على الإسلام بوصفه العقلي هو الفكرة الأصلح للحكم، والتضحية لأجله إنما تأتي بشكل تلقائي من اعتناقه كعقيدة عقلية.
* ولا يقال إن الإسلام قد فشل في الحكم، وأن الإسلاميين لا يصلحون للحكم، وأن الحكم الإسلامي لم يكن مستقراً في من الأيام، وأن تصرفات الإسلاميين في الحكم قد عكست الوجه الحقيقي للحكم الإسلامي، وأن الحركات السياسية والمسلحة ارتبطت بالوحشية والإرهاب والتحالفات المشبوهة في التوسل إلى السلطة وغير ذلك. لا يقال ذلك؛ لأنه صار يتخذ ذريعة لمنع الإسلام من الوصول إلى الحكم، ومبرراً للمنع المسلمين من ممارسة العمل السياسي. والذي ينبغي أن يكون واضحاً في الأذهان أن الإسلام لايستمد من سلوك المسلمين، ولا من سير الحكام وتصرفاتهم، ولا من مواقف بعض حركات التي يديرها مسلمون. وإذا ما فشل حزب معين في إدارة الحكم والاحتفاظ بالسلطة، فهل يعني هذا فشل الإسلام في الحكم، أو إمكانية فشل كل من يصل إلى الحكم من المسلمين؟ ومن أروع ما قرأته في ذلك قول العلامة النبهاني في كتابه نداء حار:(وضعف حملة الفكر الحق في إدراكه لا يعني أنه ليس بحق؛ لأن صاحبه لم يستطع شرحه، أو قبل أن يكون متهماً. كما أن قوة بيان حملة الفكر الباطل لا يعني أنه ليس بباطل؛ لأن صاحبه استطاع أن يصوره بصورة الحق). وهكذا فإن الهجوم إنما يصوب للإسلاميين؛ لأنهم هم الذين فشلوا وليس الإسلام، لكونهم لم يكونوا واعين عليه، مع هزة في الإيمان به، وتأثر بغيره.
خلاصات:
- من الجهل أن نحاكم الفكرة الإسلامية، ونحن نتابع حجم التآمر عليها، ونعايش تسميم الأجواء بالأباطيل، من الجهل أن نحكم عليها بالفشل،وبعدم قدرتها على تقديم المعالجات الفاعلة في مواجهة المعضلات. وهي صافية في مصدرها، صادقة في معالجاته، وهي في أعماق المسلمين وهي نبض حياتهم .
- ومن اليأس أن تجزم القوى الشعبية بعدم إمكانية وصول الفكرة الإسلامية للحكم، وبعدم نجاحها في البقاء فيه، وأن يثبطها ذلك عن التعلق بها، والدأب على ما يبلغها غاياتها، لأن الأمل يسكن في دواخلها، وأن الشوق يحملها للعيش تحت ظلالها.
- ومن الظلم أن نختزل القيادات في الرموز البارزة، وأن نجعلها النموذج الافتراضي للقيادة، وأن نضفي عليها النبوغ والإلهام، وقد انفضح عقمها عن إبداع المعالجات، علاوة على أن القضايا المعاشة لا تحتاج لأعلى من قيادة ذكية.
د.حسين بشير نور الدائم
هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.