د. عبدالعظيم ميرغني الشروق مرت من هنا قيل إن الضمير لا يمنع المرء من ارتكاب الخطأ لكنه فقط يمنعه من الاستمتاع بارتكابه، بالوخز والتأنيب والتعذيب. وعذاب الضمير لا خلاص منه إلا بالتكفير عن الخطأ أو الذنب المسبب له. والناس من حيث الذمم والضمائر صنفان. صنف معدوم الضمير يتصرّف فيما يعرض عليه دون وازع أخلاقي. لا يقر بخطئه إن أخطأ، بل يتمادى فيه باختلاق الذرائع والمبررات المتضاربة والمتناقضة. مثلما فعل الفلكي البريطاني السير آرثر أدنقتون الذي عرف بصلفه واعتداده برأيه فهو حين عرض عليه تلميذه الهندي شاندرا سيخار نظريته حول (الثقب الأسود) التي حاز بها على جائزة نوبل للسلام فيما بعد، وبخه ونصحه بأن يبحث له عن مجال آخر غير علم الفلك. ثم أنه لم يعتذر له حتى بعد أن ثبتت صحة النظرية التي تقول إن نجماً (بارداً) يزيد حجمه عن حجم الشمس مرة ونصف ينطوي وينضغط حتى لا تبقى فراغات بين جسيمات مادته فيبلغ حجمه صفراً Zero size وتصبح كثافته لا متناهيا، وجاذبيته قوية خارقة لا يفلت منها شيء حتى الضوء وبذلك يصير ثقباً أسود. الصنف الآخر من الناس هم ذوو الضمائر اليقظة الحَيّة، الذين متى ما أخطأوا اعترفوا بخطئهم على رؤوس الأشهاد. مثلما فعل الفيزيائي البريطاني ستيفن هوكنج الذي اعترف في كتابه "تأريخ موجز للزمن" بخطأ إعتقاده بأن الفوضي الملازمة لمرحلة اتساع الكون التي يمر بها حالياً سوف تتناقص في المرحلة الانطوائية التي ستعقب مرحلة إتساعه هذه. وأن مرحلة الإنطواء ستأخذ منوالاً معاكساً لمرحلة الاتساع، بحيث يعيش الناس حياتهم فيها بالمقلوب، يموتون قبل أن يولدوا، ويزدادون شباباً أكثر فأكثر كلما تقدم الكون في عملية إنطوائه. ومثلما فعل أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه والذي حين راجعته إمرأة: قال: أصابت إمرأة وأخطأ عمر، كل النَّاس أفقه من عمر. وسأل رجل علياً كرم الله وجهه، فأجابه. فقال الرجل: ليس كذلك يا أمير المؤمنين ولكن كذا وكذا، فقال كرم الله وجهه: أصبتَ وأخطأ علي، وفوق كل ذي علم عليم. وقد يري البعض كالإمام إبن حزم أن الإعتراف بالخطأ والتكفير عنه يتطلب إصلاحاً جذرياً للهوية الشخصيه، فهو حين دخل المسجد ليشهد جنازة جلس دون أن يركع. فقيل له قم فصل تحية المسجد، وكان قد بلغ ستة وعشرين عاما. ثم أنه لما رجع من الجنازة عصراً دخل المسجد وبادر بالركوع. فقيل له ليس هذا بوقت صلاة. فانصرف كسيفا حزينا، ليهجر حياة العز والمجد الذي نشأ فيهم، وعزف عن مهنة الأدب التي برع فيها، ونذر حياته كلها لدراسة الفقه حتي صار في ظرف ثلاثة سنين إماما للمتفقهين. ماذا أنت فاعل عزيزي القارئ إذا ما وجدت نفسك وقد اغترفت خطأ ماً؟ هل ستعترف بخطئك وتعتذر عنه أم تتمادي فيه وتصر عليه؟ أنا شخصياً لا أتردد في الإعتراف بخطئي والإعتذار عنه متى ما تبينته. ودعونا نتخذ من واقعة غابة ود كابو بولاية القضارف (التي جعلت منها فضائية الشروق قضية ساعة) نموذجاً. فأنا أتعهد بتقديم الاعتذار عن أي قصور إداري يكون قد خالط أداء الهيئة في هذه الغابة متى ما أثبتته لجنة تقصي الحقائق التي أرسلت لهذا الغرض. ولكن حتى ذلك الحين، دعوني أتوجه بالإعتذار لشجيرات اللعوت التي نبتت (بروس) على أرض هذه الغابة، رغماً عن أنها هي أصلاً مستحقرة لنتانتها وعدم نفعها الظاهري للإنسان، الذي لا يقربها، وللحيوان الذي يعافها، والتي لا يعرف عنها أهل السودان إلا إرتباطها بالمصائب، كما في قولهم (سرارة اللعوت تتلاقى فى الحرق والموت)، كناية عن الأقارب (السرارة) الذين لا يتقابلون الا فى المصائب، مثلما لا تتلاقى أغصان اللعوت المتباعدة إلا عند تعرضها للحرائق في الغابات. أعتذر لشجيرات اللعوت التي وجهت بإزالتها من غابة ود كابو (بموجب ما يخوله لي قانون الغابات من سلطات واختصاصت فنية)، لا لشئ إلا لأنها ليست من عناصر خطتها الفنية. أعتذر لها لما قد يكون قد تبادر لأذهان البعض من انطباع خاطئ بسبب تصريحاتي بعدم جدواها الإقتصادية والإيكولوجية في الوقت الراهن في غابة ود كابو. من يدري! فربما يأتي يوم يكتشف فيه العلماء أسراراً لشجيرة اللعوت ومميزات إقتصادية وإيكولوجية. وختاماً، تبقى في النفس حسرة، مما دار بيني وبين مناظري على قناة الشروق الفضائية ولم تتح لي الفرصة للرد عليه. فمما حز في نفسي أن أرى بعض ممن يتولون بعض شئوننا يسعون لشخصنة الأمور. فمما رماني به مناظري –على سبيل المثال لا الحصر- مما له صلة بواقعة غابة ود كابو موضوع المناظرة، بأنني باحث فقط لا غير، كناية عن عدم الكفاءة الإدارية. فهل عملي في بحوث الغابات الميدانية والمعملية قبل عملي في إدارة هيئة الغابات يقدح في كفاءتي المهنية والإدارية أم يعززها؟ وهل يعلم مناظري أن هذه (التهمة) كانت ضمن شكوى تقدم بها بعضهم حينما تم تكليفي بإدارة هيئة الغابات؟ وإنني لأجد ريح تلك الشكوى في كثير من النقاط التي أثارها هو شخصياً في شكل إتهامات. إنني أتفهم الدوافع التي حدت بذلك البعض لرفع تلك الدعوى في ذلك الحين لما له من حق في المنافسة على الوظيفة التي شغلتها. ولكن ما هي دوافع مناظري وهو من ذوي الشأن غير المنافسين على هذه الوظيفة؟ ذكر مناظري أيضاً أنني تقدمت باستقالة حين تم فك حجز جزئي لغابة الفيل ثم سحبتها. فقوله بسحبي لإستقالتي غير صحيح، ولا أدري ما دافع مناظري لذلك. فالإستقالة لم تسحب بل رفضت بقرار من مجلس الوزراء الموقر. وأزيد مناظري علماً، أن تلك الإستقالة لم تكن هي الوحيدة أثناء خدمتي في إدارة الغابات بل سبقتها استقالة أخرى رفضها الرجل الكبير د. مجذوب الخليفة رحمه الله وزير الغابات المختص حينها. وإنني لأفخر بتقدير مجلس الوزراء الموقر وللوزير المرحوم مجذوب لمواقفي تلك، وإنني حين أذكرها هاهنا لا أذكرها إلا من باب التوضيح لمناظري والذي ما أخاله إلا مثلي، من فئة المعتذرين بعد هذا التوضيح. إن للإعتذار مردود جميل، يجعل للحياة قيمة ويزيل عنها القبح، ويجنبنا الشعور بعقدة الذنب والإحساس بتأنيب الضمير.