بقلم: رفيدة ياسين هو البحر.. صديقها في هياجه وسكونه.. ساهر لا ينام مثلها.. عميق كجرحها.. كبير كقلبها.. بيد أن مياهه الساحرة لا تطفئ نار أشواقها إليه.. فتبقى جالسة على رماله البيضاء الناعمة وهي متعطشة للقياه. تنتظر الشروق ومن خيوط الشمس تنسج رداءً قد يبقيها لكنه لا يقيها صقيع الانتظار حتى حلول المساء.. هي الذكريات تحاصرها عندما تهب رياح الحنين.. فعلى ذات الشاطئ التقيا لأول مرة قبل أعوام. كانا يسيران معاً.. يغنيان.. يضحكان على مواقف كانت ويتمنيان ما لم يكن.. يركضان بينما تتسلل إلى أنفيهما رائحة السمك.. فيرمي بسنارته للصيد. لا تمر دقائق قليلة حتى يلتقط طعمه سمكة دنيس المنتشرة في بحر الروم. صياد ماهر.. قالت له بابتسامة خجولة.. فرد بثقة بعد أن أومأ برأسه موافقاً حديثها: بالطبع صياد وأثمن صيدي عروس البحر. وهو ينظر تجاهها. طبع قبلة على جبينها وهو ممسك بيديها ثم سحبها نحو أحضانه. كان لرونق طبيعة المكان سحر خاص في جمعهما.. متداخل في جوهره.. متحد في مظهره لكن لم تكن تكتمل لوحته الجمالية لأي منهما إلا بوجود الآخر. أول الغيث كان فكرة راودته بوعد قدمه لها ذات مساء بإقامة مراسم عرسهما على ذات الشاطئ الذي التقيا فيه أول مرة. تنهدت قليلا وأدركت بعد أن استفاقت من لحظة شرودها أنها وحيدة الآن لا شيء معها إلا ذكريات.. دخلت في نوبة بكاء. .دموع لا تهدئ أوجاعها ولا تعيد ما راح. يبقى جوارها فارغاً على ضفاف الرحيل رغم الزحام، والأحداث شريط تدور تفاصيله يومياً لتطغى على حاضرها باسترجاع ماضٍ لم تتخلص منه ولم تتمكن من نسيانه حتى بات يشكل صورة ضبابية الملامح لمستقبل لم تعد تنتظر فيه شيئاً بعد رحيله. كانت ليلة مشؤومة تلك التي أخذها فيها إلى الشاطئ.. رغم اعتياده على فعل ذلك لاستعادة ذكرى لقائهما الأول معاً.. فقد ظل المكان محل ارتيادهما المفضل على الدوام، لم يتغير شيء فهو دوما يغازلها هناك ويحلم معها ويصطاد وينزل للسباحة بينما كانت تنتظر عودته وهي تراقبه على الشاطئ لا لأنها لا تجيد العوم فقط بل تخشاه بسبب حلم دائم التكرار في منامها بأنها ستموت غرقاً يوماً ما. هو سباح ماهر لكن هذه المرة لم يستطع مقاومة الأمواج العاتية بينما أصابه دوار لم يمكنه من النجاة.. هي لا تزال على الشاطئ لكنها لم تعد تراه حاولت النزول إلى البحر بحثاً عنه لكنها لم تستطع مقاومة خوفها ولا هواجسها تجاه ذلك الحلم القديم المتجدد الذي يداهمها في نومها. كل ما فعلته هو الصراخ ومحاولة الاستعانة بمنقذ.. كل من حضروا استجابة لنداءاتها ورجاءاتها لم يعودوا إليها بشيء. لم تظهر جثة حبيبها إلا في اليوم التالي غريقاً ومنذ ذلك الوقت وبعد مرور عامين ظلت تحضر كل ليلة إلى ذات المكان. البحر بعده لم يعد كما كان هو الآن يزيدها ألماً، أمواجه تعظم همومها هياجه يقلب ذكرياتها.. لم تعد ترى حوله إلا زخم المصطافين وزائري الشتاء الحزانى مثلها وضجة الباعة الجائلين. رغم كل ذلك.. ظل البحر صديقها الوحيد.. تتهمه دوماً بالخيانة لأنه كان سبباً في حرمانها من حبيبها لكن لا تجد من يحتمل شكواها سواه. تجيء يومياً باحثة عن نصفها الأول فلا تجد منه إلا زبداً من بقايا ذكريات ولا خيار أمامها سوى الدخول إليه بحثاً عن ذات المصير ليتحقق الحلم فربما تلتقي روحه هناك.