قبيل المغرب، جاءني في المكتب. لو لم يكن فلسطينيا قحا، لأقسمت أنه فلسطيني قح، وهو الذي يحمل في ملامحه المتعبة، كل صور أطفال غزة الذين تشظوا بالنيران الإسرائيلية، فيما هذا العالم اللامبالي، لا يزال في لا مبالاته الصفيقة، يأكل ويشرب ويتناكح، ويشخر، دون كوابيس. كان صائما. هذا ما فهمته منه، وأنا ألحّ عليه، أن أكرم مجيئه بشراب بارد أو ساخن، أو الاثنين معا. ما فهمته منه- أيضا- أنه في زيارة للدوحة، من مخيم اليرموك في سوريا. كانت ملامحه كلها "يرموكية"، تبدي بوضوح تام المعاناة التي يعيشها الآن، الذين يعيشون في ذلك المخيم، الذي تحتوشه النيران من كل جانب، وتتغافل عنه حتى "الاونروا" في زمن الأرز المعتِّت والطحين الذي ضربته السوسة. هو يحمل في روحه، نصيبا ضخما من اسمه. اسمه جميل.. ويحمل من اسم جده لأبيه - أبو الندى - نصيبا كبيرا من الكرم.. ذلك الكرم النفسي والروحي، وكرم اللسان، إذ هو يتحرك، فضيلا.. وطيبا. كان موجوعا، من فظائع إسرائيل في غزة.. وموجوعا أكثر بلامبالاة العالم.. بل بتواطؤ هذا العالم مع الفظائعيين، واللامبالاة من الذي يحدث من فظاعات، هي بكل المقاييس نوع من التواطؤ. ونوع من المشاركة في الجرائم الكبرى. يمضون بالفظائع.. الأطفال يتركون لنا بقية من صرخة، والكبار، يتركون لنا فقط، بطاقات هوية.. إنهم أكرم منا جميعا، نحن الذين نتفرج على قتلهم في الشاشات الصغيرة، ونقرمش الشبس والمكسرات.. ونتجشأ مشروبات الكولا! قال ما قال.. واختنق بعبرة.. وتساقطت دموعه. من ذا الذي يتحمل منكم، مشهد رجل تخنقه عبرة؟ كفكف دموعه.. وناولني، موضوعا للنشر عن غزة هاشم، وكانت العبرة لا تزال تضرب - من وقت لآخر- في الحلق. أيها الناس: لو رأيتم رجلا، يمشي هونا، ويتحدث بين عبرة وعبرة، وفي ملامحه الطيبة ملامح كل أطفال غزة الذين احترقوا بالنيران، وتركوا لنا بقية من صرخات مؤلمة، فهذا الرجل هو جميل محمد أبو الندى، فلسطيني، في زيارة للدوحة من مخيم اليرموك.. أقرئوه السلام.. وترفقوا به.. إنني أخاف عليه، أخاف أن يموت بسكتة عبرة، وفي عينيه بقية من دموع.