ها هو يعود إلى الخرطوم بعد غيبة امتدت ما يقارب العامين .. لم تتغير الخرطوم كثيراً .. فتلك أيام كان التدهور فيها بطيئاً ... لم يعرف التدهور ، حتى ذلك الوقت ، ايقاعات البوب الساخنه والمتسارعة. وقف أمام الباب ودق الجرس ولم يطل انتظاره حتى فتح الباب واستقبلته والدة زوجة صديقه منصور مرحبة به وداعية إياه للدخول . سأل عن منصور فى لهفة فأجابته الزوجة ، التى جاءت لتسلم عليه ، بأن زوجها قد خرج بعد المغرب مباشرة . أدخل الشنطة إلى الغرفة ، التى اعتاد أن يستضيفه فيها أهل هذه الدار، ودفع ببعض ما أتى به من هدايا، عسل وفواكه وغير ذلك ، إلى الصبى العامل بالمنزل ثم أعد نفسه للصلاة والخروج للحاق بصاحبه إذ لم يشأ أن يضيع وقتاً كثيراً قبل أن يلحق بصديقه. لابد أنه جالس الآن فى حديقة المقرن. ذلك المكان الشاعرى الذى تنوعت زوايا تعامل البشر معه ... وتباينت أعمارهم واهتماماتهم لكنه ظلَّ ذات المكان عطاءً ودفئاً وحنانا .. وشاعرية . كيف لا وهو محتضن من النيلين ومطل على درة النيل وعروسته .. توتي. لم يخطئ صاحبنا أبداً ... فلقد كان منصور جالساً ، فعلاً ، فى أحد أركان ذلك المكان ومعه صديق آخر يتحادثان فى السياسة ... والفن وأمور أخرى .. وبعد تبادل التحايا استقر صاحبنا مع منصور وصاحبه. لم يستوعب منصور المفاجأة ... فقد ألجمته تماماً .. إنه يذكر الوجه .. بل يكاد يجزم كم قريب هذا الإنسان منه .. لكن من هو ولماذا ضاع منه الاسم فى هذا الزحام؟؟ لعلَّه لم يتوقعه هذه الساعة وهذا المكان ... يكاد يصاب بالجنون وهو يسمع من صديقه أنه حينما ذهب إلى الدار ولم يجده ترك أغراضه هناك وجاء إلى هنا دون قسط من الراحة وهو الذى قضى جلَّ يومه ، هذا ، مسافراً. حاول منصور كسب الوقت واحتواء الموقف فبدأ عادياً وهو يدور بين مواضيع شتى .. ويطلق النكات والطرائف ثم رأى أن يستأذن صاحبيه ليغيب قليلا .. ظنَّ أن ذلك سيساعده فى تذكر اسم صاحبه .. وحينما غاب التفت بشير ، الجليس الأول لمنصور، إلى هذا الضيف القادم وقال له .. " ياخى واضح أنه منصور ماعرفك " فرد صاحبنا مستنكراً ورافضاً هذه الفكرة ، فهما ، منصور وهو ، صديقان منذ فترة طويلة صداقة تعطيه حق أن ينزل ضيفاً عليه فى بيته، لكنَّ بشيراً ظلَّ ثابتاً على موقفه موضحاً أن منصوراً لم يقم بتقديمهما لبعضهما، كما يقتضي الحال، مما يؤكد أنه ربما نسي اسم صاحبه واقترح بشير لحسم الوضع أن يناديه باسم الرشيد ولينتظرا رد فعل منصور إذا ما جاء وانضم إليهما وسمع بشيراً ينادى صديقه الآخر باسم الرشيد. عاد منصور إلى موقعه دون أن يفيده غيابه بشيء واستمرت "الونسة " وبشير ينادي الصديق باسمه الذى نزل برداً وسلاماً على منصور وبما أنَّه صديقه وبما أنه يستضيفه فى منزله فقد بدأ ينادي صاحبه، تحبباً ، برشدي " بالله قلت لي يارشدي وصلت الليلة ؟؟ لم يعد عباس يحتمل .. وأحس بأن نصلا مسموماً يصل قلبه " يا منصور تنساني أنا عباس..." وقبل أن يكمل فاجأه منصور " عباس حسين ... أنساك أنا .. معقول أنا أنساك ... أنا كنت عايز بس أمشى شوية مع مقلب أخونا بشيرده " وضحكوا جميعاً . نعم زالت الغشاوة .. واستعادت الذاكرة كامل وعيها ومخزونها ، فجأة وبدون مقدمات ، وكان الاسم الأول هو المفتاح . مثل هذا يحدث كثيراً ... بنسيان أو غيره .. وتجد نفسك فى مواجهة موقف صعب وعصيب بين مطرقة وسندان وتكون مطالباً بسرعة التصرف وحسن التصرف وإلا كنت فى خبر آخر. اشتهرت فى منطقة كبوشية المغنية حميراء بصوت غاية فى الجمال وكلمات تستثير الحماس وتحرك من قلبه جبل من حديد ... وتعدَّت شهرتها تلك المنطقة لتغطي كل ديار جعل وليصبح اشتراكها فى أي حفل، خبراً يغطي على خبر المناسبة نفسها. ثم جاءت مناسبة زواج فى إحدى قرى الضفة الغربية للنيل شاركت فيها حميراء بالغناء وكانت بحق مناسبة عظيمة لشباب كثير من قرى الضفة للاستماع والاستمتاع بغناء مغنية عموم دار جعل فامتدت المناسبة لأيام ... تواصل ليلها بنهارها ... تثير حميراء حماسة الجميع بما تغنيه .. ويثيرون حماستها بما يدفعون به إليها من مال وعطايا وبما يلهب ظهورهم من سياط . ولما طال هذا الأمر وتداخلت أيامه ذهبت أخت العمدة إلى أخيها ودخلت عليه ذات صباح باكر : " يا الحسن ياخوي انت فى الناس والمسخرة دي بتعجبك ؟؟ " فسألها " مسخرة شنو ؟ " فقالت " الليلة حداشر صباح الصبيَّن ديل مجدعين ومكسرين مع المسخوتة دي ودلوكتها .. لازولا سقى .. لا زولا زرع .. لا زولا حشَّ .. البقر تحت ما فى زول شافن .. برضعنهن صغارن ولا بحلبن زولا تاني .. والجنيات مكسرين ينوموا ويقوموا فى مكانهم" غضب العمدة غضباً شديداً وحمل عصاه الغليظة واتجه صوب بيت العرس يسبقه جمر تكاد تراه فى عينيه ويسبقه ما عرف عنه من شدة وحزم يصل القسوة أحياناً ... فلما رأته حميراء قادماً من بعيد .. وتوجست خيفة أحست بما يضمره من شر وبالخطر الزاحف عليها .. وكان رد فعلها سريعاً .. الجعلي شيخ العرب ... العمدة .. الكلس .. يالخوفها منه ... زادت من ضربات وحماسة "الدلوكه " وبدأت تنشد وتغني له .. نعم للحسن .. للعمدة غناءً نزل عليها فى لحظة ... وكان بعض مما قالته ياولادة النجاح الما بتلدك البلمة ولما وصلها العمدة كان هذا الغناء وهذا " الشكر" فبادرها قائلاً :- أبشرى بالخير .. على بالطلاق غناك سمح ...غني ... أريتهم لا أكلوا ولا شربوا " وكان حسن تصرف مزدوجاً ... حميراء عرفت كيف تتعامل مع العمدة وسط أهله وعشيرته فكان شكرها له كافياً لإطفاء كل غضب واستدعاء كل رضى والعمدة أحسن التصرف بالاستجابة وبرسالته لشباب القرية والقرى المجاورة بضرورة حساب أن لكل شيء ثمناً . وما دمنا فى المآزق وما تتطلبه من سرعة وحسن تصرف فقد حكى لى فنان صديق بأن فنانا دخل ليسجل نشيداً ممجداً انقلاب المرحوم هاشم العطا وفعلا بدأ يغني :- هاشم العطا صحَّح الخطا ثم لاحظ للمخرج ، أو من يقوم بالتسجيل ، يشير إليه بما يفيد أن الانقلاب قد فشل فاستمر الفنان يغني ولكن بكلمات تتناسب مع فشل الانقلاب :- هاشم العطا لخبط الواطه هل كان البث على الهواء مباشرة ؟؟ لا أدري.