عمرو منير دهب هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته أشد مسالك الكتابة وعورة ذلك الذي يضرب فيه الكاتب نبشاً في خصوصية أقليّة ويدفعه إلى سائر المجتمع أو الأمة التي تنتمي إليها تلك الأقلية لتقرأه وتراجع نفسها فيه، فالأغلب أن محتوى الكتابة تلميحاً أو تصريحاً يتضمّن تقريع الأمة على التهاون في حق الأقليّة، ولن تغدو فئة ما جديرة بوصف أقليّة ما لم تكن مهمّشة ثقافياً أو حقوقياً في الدائرة الكبيرة التي تنتمي إليها من المجتمع أو الأمة، والجانب الثقافي والحقوقي من التهميش يرتبط كلٌّ منهما بالآخر ارتباطاً وثيقاً، فالاعتراف بالتفرّد الثقافي يستوجب حقوقاً مادية ومعنوية بعينها، في حين أن الاندماج في الدائرة الأكبر يجبّ تلك الحقوق جبّاً على اعتباره يستأصل مفهوم الأقليّة من الأساس فلا يصبح بعدها بالإمكان النظر إلى المجتمع أو الأمة سوى على أن أيّاً منهما بنيان يشد بعضه بعضاً ولا مجال للتفكير في فضل لَبِنة فيه على أخرى. هذا، ولا جدال في أننا محليّاً وإقليميّاً بعيدون – بتفاوت – عن تلك المنزلة الرفيعة في النظر إلى الأمور، ومن قبل في النظر إلى أنفسنا. مما يستحق لقب "ظاهرة صحية" إذن تناول قضايا الأقليّات، فمصطلح أقلية ليس عيباً في حق من يتصف به ولا نقيصة في ضمير المجتمع الذي يضمّه إلا إذا استنكف المجتمع عن التصدِّي للمصطلح والفكرة التي وراءه بالتحليل والمداولة ثم قبول ما تسفر عنهما العمليتان الفكريّتان من مقتضيات. من أشهر أقلّيات السودان أطرافُه، وتلك مفارقة لأنها ليست أقليات عددية بحساب مجموع سكانها إلى مجموع سكان المركز أو حتى بقياس تعداد كل طرف إلى تعداد غيره من الأطراف أو الأعراق المشكِّلة للمركز الذي لا يسلم من التداخل الإثني الكبير. أقلية أي طرف من الأطراف في وطننا - الذي لا يزال مترامي الجوانب حتى بعد انفصال الجنوب - هي إذن أقليّة ثقافية في مقامها الأساس على اعتبار أننا لا نزال نقرّ في المركز بسطوة ثقافة واحدة هي العربية متفرِّدةً. تأسيساً على ما مضى فإن حلفا- الحضارة لا البلد – أقلية، والأقلية الأوسع في هذا السياق هي الحضارة النوبية بصفة عامة في شمال البلاد، والمفارقة الجديرة بالتأمُّل على هذا الصعيد أن واحدة من أعرق حضارات السودان القديم كانت أكثرها سلاسة في الاندماج حديثاً في الثقافة العربية التي لا تعرف سوى بوتقة الصهر من نظريات الانتماء. غير أن وجهة أخرى في النظر تكشف أن تلك ليست مفارقة وإنما على العكس واحدة من طبائع الأشياء، فتقبُّل ثقافية مغايرة طوعاً أو كرهاً من شيم الأمم الأكثر استقراراً وأعمق حضارة - تبعاً لذلك - شريطة أن لا تكون حضارة اشتهرت بالغزو. تلك نظرة في قراءة التاريخ وليست حكماً لصالح أمة أو ضدها. أيوب إسماعيل أيوب ممن اختاروا الطريق الوعر، فالرجل لم يكتب عن الحضارة النوبية في شمال البلاد فحسب وإنما نذر الكاتب الذي داخله لها، وذلك نذْرٌ يعرف قسوته كل كاتب لأنه يضيِّق هامش قرّائه فيحصره في زمرة المتحمسين إلى قضية التذكير بالحضارة النوبية وإحيائها في زمن لا يحتمل هامش القرّاء لأي كاتب مزيداً من التضييق. المدهش أن كثيراً من أبناء تلك الحضارة لم يعودوا محتمسين إلى قضية المنافحة دون فكرة إحيائها حتى إذا كانوا يعيشون في سلام مع انتمائهم النوبي، وعلى هذا فإنه ليس من الصواب أن نظن أن قرّاء أيوب وأمثاله من الكُتّاب يضمّون المجتمع النوبي بأسره، فالحقيقة التي يغتبط لها سدنة الثقافة العربية أننا لم نعد نتحدّث عن المحافظة على ثقافات الأطراف بل عن إحيائها، فجذوة تلك الثقافات قد ماتت – أو هي في طور الاحتضار - في نفوس الأجيال الجديدة من أبناء الأطراف. تميّز كتابات أيوب بالتثبُّت الإحصائي والوثائقي أرقاماً وصوراً وإفاداتٍ، وتبقى الدلالة الخاصة للإفادات المستخلصة ممن تبقى من الجيل الذي يعي عن الحضارة النوبية ما لا يزال عصيّاً على التدوين. "حلفا تلاطم الأمواج وهطول المطر"، "تهجير أهالي حلفا..مشاهد ومواقف"، "تهجير أهالي حلفا..نتائج التجربة"، "النوبي والنهر"، " الفردوس الموعود – تهجير أهالي حلفا ..محاولة الوصول إلى المحطة الأخيرة"، ذلك مما جاهد في توثيقه الكاتب في شأن قضيته، لكن أميز ما وضعه على الإطلاق هو في تقديري كتابه " المهدية وبلاد النوبة"، فالأخير مدخل فريد للوقوف على بدايات تغلغل حلفا في الكيان والوجدان السودانيين في العصر الحديث، وتلك بطبيعة الحال بدايات تغلغل السودان في الكيان والوجدان الحلفاويين حديثاً. على أنه من المهم التذكير بأن حلفا قبل ذلك لم تكن مصرية وإنما نوبية، وثمة فارق كبير بين الانتماءين حتى إذا كان الجزء الأكبر من النوبة حينها يتبع إدارياً وسياسياً لمصر. وفي حين أن التنمية هي الهاجس الأشهر لمتذمِّري الأطراف، وهو هاجس حق، فإن هاجسي الأكبر هو الحفاظ على ( إحياء؟ ) لغات الأطراف بإتاحتها في مناهج التعليم منذ المدارس الأولية يختار الطلاب من بينها ما يشاؤون.. ليس بحسب انتماءاتهم بالضرورة. ما يضعه أيوب كتابات لكل السودانيين وليس للنوبة وحدهم، فأنا أقرأ بذات الشغف ما يصب في السياق ذاته من كتابات الشرق والغرب و..الجنوب.. (لا أزال)، فمن خلال ذلك أعرف الشخصية السودانية أكثر.