السر سيد أحمد يتوقع أن يشهد العام الجديد المزيد من الاضطرابات في الساحة النفطية حيث ستأخذ تقلبات الأسعار دورتها الكاملة حتى تستقر على حال ما، الأمر الذي ستكون له تبعاته السياسية وذلك بسبب الخاصية الاستراتيجية للذهب الأسود التي اكتسبها منذ العام 1911 عندما قرر وزير الحربية البريطاني ونستون تشرشل تزويد الأسطول الحربي بالنفط بدلا من الفحم. وفي الأسبوع الأخير من الشهر الماضي إثر وزير النفط السعودي المهندس علي النعيمي الإعلان وبصراحة غير معهودة ومن خلال مقابلة مع نشرة "ميدل أيست أيكونوميك سيرفي" النفطية المتخصصة انه دفع أوبك الى تبني استراتيجية عدم الدفاع عن السعر، الذي وصل الى أدنى معدل له في غضون خمس سنوات. الإشارات من السعودية، الدولة الأكثر تأثيرا في صناعة النفط العالمية، تتالت منذ سبتمبر الماضي عندما أعلنت عن تخفيضات لشحنات نفطها المتجهة الى الأسواق الخارجية في أوروبا والولاياتالمتحدة وآسيا. ثم جاءت الإشارة الثانية عندما حملت السعودية بمساندة خليجية بقية دول أوبك على اعتماد قرار عدم خفض إنتاج المنظمة من 30 مليون برميل يوميا بالإجماع، ثم جاءت الرسالة الثالثة وهي اجراء تخفيضات في أسعار شحنات يناير حيث حظيت تلك المتجهة الى السوق الأمريكية بالخفض للشهر الخامس على التوالي وتلك المتجهة الى آسيا بأكبر خفض منذ العام 2002. الخط الأساسي في كل ذلك الحفاظ على حصة السعودية ومنتجي أوبك الآخرين في السوق وذلك في مواجهة حالة من ضعف الطلب وزيادة المعروض. فرغم الاضطرابات التي تعيشها بعض الدول المنتجة مثل العراق وليبيا ونيجيريا، الا انها تمكنت من إنتاج كميات إضافية من النفط، على أن التغيير الأكبر جاء من الولاياتالمتحدة التي تصاعد إنتاجها المحلي الى نحو تسعة ملايين برميل يوميا، واذا استمر بنفس معدلاته فإن التقديرات تشير الى أن أمريكا يمكن أن تزيح هذا العام كلا من روسيا والسعودية من مرتبة الدول الأكثر إنتاجا للنفط. أحد نتائج هذا التطور تراجع الواردات النفطية الأمريكية خاصة من دول أوبك وذلك الى أقل من ثلاثة ملايين برميل يوميا، وهو أقل معدل لوارداتها من دول المنظمة في غضون 30 عاما. وبسبب هذا اختفت نيجيريا كلية من قائمة الدول المصدرة للنفط الى الولاياتالمتحدة، كما أن الصادرات السعودية تراجعت الى 894 ألف برميل يوميا، وهو رقم خطر لأنه يقل عن مليون برميل مما يمكن أن ينعكس سلبيا على الثقل الاستراتيجي في علاقات البلدين. تقليص واردات الولاياتالمتحدة من النفط الأجنبي ظل حلما وهما مقيما لكل ساكن جديد للبيت الأبيض. لكن وعلى امتداد ثمانية رؤساء أمريكيين ومنذ الحظر العربي النفطي في العام 1973 على أيام ريتشارد نيكسون تصاعدت نسبة اعتماد الولاياتالمتحدة على النفط الأجنبي من 37 في المائة الى 66 في المائة عندما أنتخب باراك أوباما رئيسا لأول مرة في العام 2008. ثم جاء تصاعد أسعار النفط متجاوزا 60 دولارا للبرميل لتجعل من الممكن النظر في الجدوى الاقتصادية والتجارية لاستخدام تقنية التكسير الهيدرولوجي والحفر الأفقي لاستخلاص النفط والغاز من مكامن لم يكن ممكنا في السابق استغلالها. وهكذا أسهم ارتفع الأسعار في الدفع بلاعب جديد هو الولاياتالمتحدة وبتقنية جديدة هي التكسير الهيدرولوجي تمكنت من استخراج النفط الصخري ويمكن نقلها الى مناطق عديدة من العالم بما فيها الصين، مما ينذر بتحد غير مسبوق للنفط التقليدي. أحد أهداف السعودية في ترك الأمور لقوى السوق أن يسهم تراجع الأسعار في إخراج أو تقليل بعض إنتاج النفط الصخري من دائرة التشغيل لأسباب اقتصادية، ومع أن التقديرات تتباين حول المدى السعري الذي يمكن أن يُحدث ذلك الفرق، الا انه من المعروف أن التقنية المستخدمة تتصاعد فعاليتها وقدرتها على استخراج كميات أكبر من النفط ولو أن هناك بعض المؤشرات أن الآبار التي تنتج نفطا صخريا تتراجع إمكانياتها الإنتاجية بنسب كبيرة بعد فترة من التشغيل. ومع أن الكثير من التحليلات تتحدث عن تأثير تراجع أسعار النفط على روسيا وإيران، الا أن ما يجري يمكن أن يسهم في إيجاد توتر في العلاقات السعودية الأمريكية خاصة اذا نظرت واشنطون الى الأمر من زاوية انها حرب أسعار تهدف الى تقليص إنتاجها المحلي وهي قضية تتشابك مع إحساسها بأمنها القومي وهناك مؤشرات أن الإنتاج الأمريكي سيزيد هذا العام بنحو 850 ألف برميل يوميا فقط بسبب تراجع الأسعار مقابل زيادة مليون برميل في كل عام من الأعوام الثلاثة الماضية. السعودية في وضع أفضل للمضي قدما في حرب الاستنزاف هذه وذلك من ناحيتي رخص كلفة استخراج برميل النفط فيها التي تتراوح بين 4-5 دولارات للبرميل وتمتعها باحتياطيات مالية ضخمة تصل الى قرابة 800 مليار دولار، لكن يبقى السؤال عن المدى الذي يمكن أن تستمر فيه وهل ستتدخل واشنطون لتغيير هذه الوجهة مثلما تدخلت في العام 1986 ووقف حرب الأسعار اذ بعثت بنائب الرئيس وقتها جورج بوش، الذي بخلفيته النفطية كان يعرف أن الكثير من الآبار في الولايات المنتجة للنفط مثل تكساس ولويزيانا يطلق عليها Stripper Wells تنتج بضعة آلاف من البراميل يوميا واذا أغلقت فلن يمكن إعادة فتحها وتشغيلها مرة أخرى. وكان أن أوقفت تلك الحرب قبل أن تحقق نتائجها. وهناك أيضا عامل التبعات السياسية والاقتصادية الذي لابد من وضعه في الاعتبار، فللسعودية التزامات داخلية تجاه مواطنيها الذين وصل تعدداهم الى 30 مليونا ومنذ العام 2010 زاد الإنفاق الحكومي على البرامج التنموية الاجتماعية بنسبة 52 في المائة الى 265 مليار دولار، كما أن التزاماتها الإقليمية مثل دعم مصر وغيرها تجاوزت 22 مليارا خلال هذه الفترة. أحد مظاهر تبعات تراجع أسعار النفط أن الميزانية السعودية لهذا العام تتضمن عجزا مقداره 38.6 مليار دولار وكان صندوق النقد الدولي توقع قبل أشهر أن تدخل السعودية دائرة العجز في العام 2018. واذا كان تراجع أسعار النفط يمثل الملمح الرئيسي لما يجري في السوق النفطية، فأن هناك تطورات أخرى لا تقل أهمية. ومن بين هذه أن السوق الآسيوية أصبحت منطقة الاستهلاك الأساسية في العالم بقيادة الصين، التي حلت محل الولاياتالمتحدة كأكبر مستورد للنفط، بل أن هناك أرقاما لم تتأكد بعد بصورة نهائية أن حجم الاقتصاد الصيني تجاوز رصيفه الأمريكي إذ بلغت قيمة الخدمات والسلع التي أنتجها وقدمها العام الماضي 17.6 ترليون دولار مقابل 17.4 ترليونا للاقتصاد الأمريكي. وهناك التطور الآخر المتمثل في الدور المتعاظم لشركات النفط الوطنية المملوكة لدول وحكومات وذلك على حساب الشركات التجارية الغربية. ويظهر ذلك في القائمة التي تصدرها نشرة "بتروليوم أنتلجنس ويكلي" النفطية المتخصصة، حيث تجاوز عدد هذه الشركات الوطنية تلك التجارية الغربية في قائمة أكبر عشر شركات وذلك لأول مرة منذ 13 عاما وارتقت شركة النفط الوطنية الصينية لتحتل المرتبة الثالثة بعد أرامكو السعودية وشركة النفط الوطنية الإيرانية ومزيحة شركة أكسون/موبيل الأمريكية التي شكلت في وقت من الأوقات أضخم شركة في العالم وكان لديها أسطول من الناقلات يتجاوز ما لدى الاتحاد السوفياتي قبل انهياره. وبنفس القدر تقدمت شركة روزنفط الروسية على حساب شيفرون الأمريكية وتوتال الفرنسية التي خرجت من قائمة العشر الكبار، بل وتتردد أحاديث أن أبوظبي في طريقها لفتح الباب أمام الشركات الصينية والكورية الجنوبية للعمل في صناعتها النفطية التي ظلت حكرا على الشركات الغربية لأكثر من 70 عاما. (غدا انعكاسات ما يجري على السودان)