دخلت تركيا بيوتنا قبل أن تنشط السياسة في العلاقات على المستوى الرسمي بين حكومتي البلدين، فالمسلسلات التركية تملأ فضاءاتنا وقد كسرت الدراما المصرية اهتمام المشاهد العربي من خلال دبلجة شامية هي (عنجد حلوة كثير). وقد أصبحت زوجتي مدمنة للمسلسلات التركية وقد استطاعت أن تقنعني بمتابعة بعضها مثل (العشق الممنوع). وقد لاحظت زوجتي أن المسلسلات التركية تتميز عن المصرية في أن المصرية يمكنك التنبوء بنتيجتها النهائية – أي الحبكة الدرامية المصرية مكشوفة. بل يمكنك أن تقول جملة ما تتوقع أن يقولها أحد أطراف الحوار فيقولها كما توقعت. أما في التركية فيصعب التنبوء بالنهايات بل تأتي النهاية على عكس ما يتوقع أي مشاهد. أي أن الحبكة الدرامية التركية ذكية والتشويق (suspension) عال جداً. غير أننا على مستوى السياسة أو العلاقات الرسمية بين تركيا والسودان أستطيع الآن أن أتنبأ بأنها سوف تزدهر بدرجة كبيرة جداً، كيف؟ في الأسبوع الماضي استضاف السودان، ممثلاً في وزارة التعاون الدولي، المؤتمر التركي/الأفريقي الدولي السابع (18 – 19 يناير 2012). وهي المرة الأولى التي يخرج فيها هذا الكونجرس التركي الأفريقي لعقد مؤتمره السنوي خارج تركيا. وهذا شرف للسودان، وهذا يؤكد مكانة السودان بالنسبة لتركيا كحليف استراتيجي يمكن أن يكون مركزا استثماريا تركيا ضخما تنطلق عبره لقارة أفريقيا. فتركيا تملك الخبرة والتقانة وقد أصبح ترتيبها ال (15) على مستوى العالم من ناحية الصناعة. وقد تطورت فيها الصناعة بدرجة كبيرة حيث أنتجت بالأمس طائرة استطلاعية بدون طيار. وهناك الآن صناعات صغيرة (مثل المعدات والأدوات الكهربائية) لا يحتاج لها السوق التركي ويمكن أن يكون السودان مقرا لهذه الصناعات ويتم تصديرها إنتاجها إلى الدول الأفريقية. وهناك مثال آخر وهو أن السودان يستورد منسوجات بحوالي (250) مليون دولار، هذه يمكن أن يتم تصنيعها هنا في السودان باستثمار تركي – كما أوضح ذلك أحد رجال الأعمال الأتراك. جاء موضوع هذا العام تحت عنوان: "الأبعاد المتعددة للكفاح الأفريقي: مستقبل العلاقات التركية الأفريقية". وينظم هذا المؤتمر السنوي مركز الدراسات الاستراتيجية التركية/الآسيوية، واختصاره باللغة التركية (تَسام: TASAM). الطريق ممهد للبلدين لإحداث اختراق كبير في علاقات ثنائية نموذجية. فهناك سلفا وجود تركي كبير في السوق السودانية حيث توجد الآن أكثر من سبعين شركة تركية عاملة في السودان. ومن المؤشرات على تسارع عجلة تمتين العلاقة بين البلدين نجد أن الخطوط الجوية التركية التي بدأت عملها في السودان في عام 2006 برحلتين في الأسبوع الآن هناك رحلة يومية من السودان (وقد استغللتها مرتين إلى أمريكا). في مؤتمر الخرطوم (بقاعة الصداقة) تحدث رجائي كوتان، وهو وزير سابق ومدير مركز بحوث اقتصادية واجتماعية ويمثل منظمات المجتمع المدني التركي قائلاً: "عندما جاءت الامبراطورية العثمانية لأفريقيا لم تأت من أجل الفتح بل جاءت لوقف الزحف الاستعماري خاصة من أسبانيا والبرتغال، ولحماية الإسلام من الغرب الأوروبي. وقال إنهم لم يستخدموا القوة مثل الاستعمار الأوروبي بل جئنا من أجل إقامة الخلافة الإسلامية، وعمل البنية التحتية في هذه الدول الإسلامية. والآن نهدف إلى الاستفادة من الموارد الإفريقية وإفادة إفريقيا من الخبرة التركية." السيد أوردوغان كوك سفير تركيا لدى السودان جاء كممثل للرئيس التركي وقدم خطابه إنابة عنه مما يعكس اهتمام القيادة التركية بهذا المؤتمر وبالسودان وبإفريقيا. وقال السفير التركي إن هذا المؤتمر الذي ينعقد سنويا يعكس الشراكة التركية/الإفريقية. وقال إن إفريقيا أصبحت مسرحا لتنافس قوة جديدة مثل الصين والهند والبرازيل وكوريا الجنوبية بالإضافة إلى روسيا. وقال إنهم يشجعون الشركات ورجال الأعمال الأتراك للاستثمار في إفريقيا لأن تركيا تتميز بإمكانات وخبرات كبيرة. وأن هذا المؤتمر يأتي في سياق تعزيز التبادل التجاري بين تركيا وإفريقيا وتنويع التعاون لصالح إفريقيا وتركيا. وقال إن هناك لجنة وزارية تعمل منذ عام 1993 لتحقيق هذه الأهداف. من محاور المؤتمر كانت هناك مائدة مستديرة (أو طاولة مستديرة) بين تركيا والسودان وفيها قال الجانب التركي إنهم مستعدون لتبادل خبراتهم الصناعية مع السودان. فتركيا يمكن أن تفيد السودان في مجالات كثيرة ويكفي أن حجم الاستثمارات الأجنبية في تركيا بلغت (84) مليار دولار. وارتفعت صادراتها من (3) مليارات دولار إلى (36) مليار دولار في بضعة سنوات. وقالوا إن تركيا توفر الأمن الغذائي لأوروبا حيث تصدر الخضروات والفاكهة. وفي هذه النقطة لاحظ الطرفان أن هناك موسما تتوقف فيها هذه الصادرات التركية من الخضر والفاكهة لأوروبا ويصادف ذلك موسم الإنتاج هنا في السودان (الشتاء) لهذه المحاصيل النقدية وبالتالي يمكن أن يتم تصديرها لأوروبا عبر تركيا. في هذه الطاولة المستديرة تحدث رجل أعمال تركي قائلاً: إن هناك حملة مغرضة ضد السودان حيث يقولون إن السودان طقسه حار وبه أمراض وبه مشاكل. هذه الحملة مصدرها الغرب الهدف منها التأثير على رجال الأعمال الأتراك حتى لا يستثمروا في السودان. وقد اقترح أن يكون هناك برنامج في التلفزيون التركي للتعريف بالسودان من حيث الشعب والموارد ومجالات الاستثمار، ولاحظ أن المعلومات غير متاحة لرجال الأعمال. وقال إن الاستثمار التركي موجود السودان في مجالات الستائر والبناء والصناعات المتوسطة والصغيرة غير أن هناك مجالات مهمة يحتاج أن يستثمر فيها رجال الأعمال الأتراك مثل الثروة الحيوانية والمساكن الجاهزة والانشاءات، وأنهم مستعدون لإعادة الحياة لمصانع النسيج في السودان خاصة وأن السودان ينتج القطن بكميات كبيرة، وقال أحد رجال الأعمال الأتراك إنه يستطيع أن يوفر العمل لحوالي (3000) سوداني إذا جاء واستثمر في السودان، وهذا يعني توفير مصدر دخل لعشرات الآلاف من الأسر. الجانب السوداني بادل الجانب التركي الحماس والتجاوب والتفاهم في أهمية تحريك التعاون بين الدولتين إلى آفاق أوسع. وقد أشار الخبراء السودانيون إلى أن السودان عانى من الحصار والحروب وتراكم الديون (الآن 49 مليار دولار، بمتأخراتها وخدماتها) وأن السودان يحتاج لتركيا لكسر هذا الحصار. وقدموا شرحا لامكانيات السودان من أراض خصبة ومصادر مياه وفيرة ومتنوعة وحوالي (130) مليون رأس من الماشية والمعادن وغيرها. وطمأنوا الجانب التركي على أن السودان حريص على إقامة شراكة استراتيجية مع تركيا لأن تركيا تتمتع بثقل سكاني ومركز اقتصادي ولها وزنها كقوة إقليمية في الشرق الأوسط والعالم. كان المؤتمر ناجحا بدرجة كبيرة خاصة في جانب المائدة المستديرة بين تركيا والسودان. وقد أحسنت وزارة التعاون الدولي التنظيم لكن كانت نقطة الضعف في المؤتمر هو الحضور الضعيف (في اليوم الثاني) خاصة في القاعة الرئاسية الكبرى التي قُدمت فيها أوراق خاصة بالعلاقات التركية/الأفريقية. لماذا لم تدع اللجنة المنظمة عددا كافيا من أساتذة الجامعات والخبراء والباحثين المهتمين بهذه المجالات أو المتخصصين في محاور المؤتمر؟!