الأحزاب السياسية السودانية عن بكرة أبيها ودون استثناء منشغلة بقضاياها الداخلية وإشكالاتها التنظيمية المستمرة بعيداً عن هموم الوطن والمخاطر التي باتت تهدد وحدته وتماسك نسيجه الاجتماعي وسلامة أراضيه، فكل الأحزاب السياسية يتحدث قادتها في كل صباح ومساء عن القضايا العالقة التي تواجه مستقبل بلادنا وبتفصيل دقيق للأزمة في جنوب كردفان والنيل الأزرق دون أدنى أطروحات ومبادرات عملية تصب في المعالجة والحلول القومية بل يكثر الحديث عن المتسبب في تلك الإشكالية والمخاطر التي قد تحدث في السودان بسببها والتي قد تصل إلى انفصالات جديدة وتقسيم آخر قد يطال هذه المرة دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان واحتمالات شرق السودان والشمالية وكل تلك المخاطر يتحدث عنها الساسة الكبار في بلادنا ودون أن يفتح الله عليهم بالرؤى والأفكار ووحدة الجبهة الداخلية تجنبا لتلك الكوارث فالتاريخ لن يرحم معارضاً أو حاكماً إذا تعرض السودان لأي مخاطر تهدد وحدة ترابه وشعبه فالمسؤولية تضامنية لن تقع على حزب المؤتمر الوطني وحده والآخرون يتفرجون فالوطن فوق كل الأحزاب وكل الأشخاص مهما كانت أوضاعهم أو مكانتهم السامية فالحزب الاتحادي الديمقراطي "الأصل" الذي ما زال منشعلاً بخلافات المشاركة في الحكومة التي تمت نجد أن بعض قادته من الوزراء المشاركين في الحكم غير مقتنعين ببرنامج الحكومة حتى بعد أن أدوا القسم فبالأمس القريب خاطب وزير الدولة بالخارجية الدكتور منصور يوسف العجب وهو منتسب للاتحادي الديمقراطي الجلسة الافتتاحية لأعمال المؤتمر الدولي التركي الإفريقي السابع المنعقد في الخرطوم بقاعة الصداقة حيث قال للحضور"الكلام ده ما كنت داير أقولو لكنه مكتوب جاهز وما كلامي أنا" وذلك في إشارة خطيرة لعدم التزام الوزير برأي الحكومة التي هو جزء منها وكان الأفضل أن يشارك في كتابة ذلك الخطاب المهم وأما على صعيد حزب الأمة القومي فالسيد الصادق المهدي مشغول جداً هذه الأيام بقضايا حقوق المرأة وذلك السجال الذي يدور بينه وبين ما يسمى الرابطة الشرعية للعلماء بعد أن ظل في وقت سابق في مناكفات وخلافات مع الدكتور حسن الترابي شغلت الرأي العام كثيراً لتأتي المصالحة على يد الأستاذة هالة عبد الحليم رئيسة حركة "حق" ليستمر الجدل- بين كل قوى الإجماع الوطني حول أهمية الوصول إلى هيكلة جديدة ليصبح الجميع منشغلين بالتنظيم أكثر من الهموم والمخاطر التي تواجه البلاد ولا يستثنى حزب المؤتمر الوطني من الانشغال بقضايا أخرى بعيدة تماماً عن تطلعات وهموم المواطن السوداني كالإشكالية التى نشبت ما بين علي محمود وزير المالية وعبد الحميد موسى كاشا وأزمة البحث عن وال لولاية شرق دارفور، بجانب انشغال المؤتمر الوطني بمسألة ترتيبات جديدة لأمانات الحزب. إن منظور المعارضة الذي يكتفي فقط بالعمل من أجل إسقاط النظام الحاكم لا يعفيها من المسؤولية التاريخية في الحفاظ على الوطن واستقراره باعتبار أن زاوية العمل من أجل إسقاط النظام لم يقم بها أي حزب في تاريخ السودان بل كل الثورات التي حدثت في أبريل 1985م، وقبلها في أكتوبر 1964م، كانت ثورات شعبية لم ترتب لها الأحزاب بل استثمرتها بعد أن اكتملت وسقط النظام المراد إسقاطه، فالعمل الوطني في وقتنا الراهن هو تكاتف كل الجهود من كل الأحزاب لأجل الإصلاح السياسي والاقتصادي والحفاظ على النسيج الاجتماعي السوداني متماسكاً قوياً، فلا يمكن لأي قائد سياسي وطني يرى المخاطر التي تواجه بلاده ويصمت دون أن يقدم أي مساهمات فكرية أو مبادرات قومية تصب في المعالجة الكاملة لتلك الأزمات. إن بلادنا تمر بمنعطف خطير ومهددات لا ينكرها أحد سواء أكان في الحكومة أم المعارضة حيث تتلخص تلك الإشكالات العالقة في دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان ومنطقة "أبيي" والأزمة الاقتصادية مما يستوجب علينا جميعاً أحزاباً في الحكومة والمعارضة ومنظمات مجتمع مدني أن نتفق على ورقة واحدة لمعالجة الحروب الأهلية في جنوب كردفان والنيل الأزرق عبر التفاوض السلمي وفق بنود واضحة ومجمع حولها كما أن تكملة السلام في دارفور تحتاج إلى تضافر كل الجهود الوطنية وأن نرى أيضاً مبادرات من الأحزاب التي لها خصوصية علاقة بالجنوب والحركة الشعبية من أجل استدامة السلام والتوافق الاقتصادي فيما يتعلق بالنفط وتجارة الحدود والوصول إلى حلول نهائية للأزمة في منطقة "أبيي". إن البلاد ما عادت تتحمل الذين يقفون على السياج يتفرجون وهم يملكون خيوط بعض الحلول للأزمات التي تمر بها، فعلى سبيل المثال تجد الديمقراطيين يحكمون الولاياتالمتحدةالأمريكية والجمهوريين في المعارضة ولكن ليس هناك أدنى خلاف على الثوابت والمصالح العليا لأمريكا فالسودان ما عاد يتحمل تلك الصراعات فتماسك الجبهة الداخلية ووحدة الصف الوطني هما الطريق الوحيد للخروج من تلك الأزمات وتحقيق الاستقرار والديمقراطية المستدامة في بلادنا.