الشيء الوحيد الذي يقف أمام الإغراء بمهاجمة العرب على استنساخ برامج اكتشاف المواهب الأمريكية هو أن تلك بدعة طالت العالم أجمع حتى الدول الغربية التي لا تقلّ إبداعاً عن أمريكا، وتحوُّطاً أقول: أو تقلّ بقليل. فالإبداع الأمريكي، سواء أكان أصيلاً بالفعل أم مسطوّاً به ومعدّلاً بمهارة لص محترف، لم يعد محلّاً للخلاف إلّا عندما يحاول أربابه تقديمه على أنه الأوحد والأفضل في العالم. أما الأوحد فلا يمكن أن يُعدّ الأوحد بحال، وأما الأفضل فمن الممكن فقط إذا كان المقصود بالأفضلية ابتداءً الاكتساح وحمل الآخرين على الاقتفاء. هكذا يغدو العرب في مأمن إلى حد ما من اللعنات التي تجرّها تهمة التقليد وقد تقاسمها معهم الداني والقاصي من الأمم على اختلاف أجناسها ومراتبها من سلّم الحضارة البشرية في هذا العصر. ولكن أخال أن التقليد درجات رجوعاً إلى المعايير الأخلاقية ومن قبل العملية، فأن تقلّد أخاك أو ابن عمِّك غير أن تقلِّد ابن القبيلة المنافسة، فكيف بتقليد الأمم اللدودة على نطاق المطارحات الفكرية والاقتصادية والسياسية؟. مهما يكن، مقامنا هذا معني بتتبع ما نفعله بيننا ونحن بصدد تقليد الغرب وليس بقياس أدائنا إلى أدائه على الصعيد ذاته. وسنّة برامج اكتشاف المواهب المقلّدة عندنا اقتضت أن تتكوّن لجنة التحكيم من بضعة أعضاء هم في الغالب من لبنان ومصر والخليج، على أن يكون أحد الأعضاء امرأة، ولا مانع من أن يكون في اللجنة عضوان من البلد نفسه (غالباً لبنان)، وسيكون من المحبّذ أن تستوعب اللجنة أعضاء من دوائر ثقافية وفنية تنتمي إلى رقع جغرافية عربية أخرى كتونس والعراق بقدر ما يسمح مقام المنافسة وتأذن مساحات القواعد النخبوية في البلدان العربية. وجدير بالانتباه أن تلك البرامج قد ساعدت على ميلاد بعض النجوم من بين أعضاء لجان التحكيم في خضم ما سعت إليه من اكتشاف المواهب الواعدة بين المتنافسين. وبإزاء المباريات بين المتسابقين تظل المنافسة مشتعلة بين أعضاء لجان التحكيم من النجوم العرب، وأحد تلك البرامج كان أصلاً مسابقة بين أعضاء لجان التحكيم يختار كل منهم فريقه (ويختاره الفريق، توافقاً بين الطرفين) ليتنافس النجوم فيما بينهم بعد أن تكتمل الفرق. ورغم أنني لا أشك في أن شكل العلاقة بين نجوم لجنة التحكيم يطاله كذلك الكثير من التقليد لما في الأصل الغربي (الأمريكي)، فإن الخلفية الثقافية والاجتماعية التي يصدر عنها نجوم التحكيم العرب أولئك - كلٌّ بحسب موطنه – لها الدور الأكبر في إدارة دولاب العلاقة بينهم. بطبيعة البرنامج لا بد أن يكون للجنة التحكيم رئيس، وبطبيعة أية علاقة بشرية بين بضعة أشخاص لا بد من أن يبرز أحدهم بوصفه صاحب الشخصية الأقوى، وفي الغالب يتم سلفاً اختيار تلك الشخصية القوية رئيساً، ولكن قد يحدث لسبب ما – كأن يكون الرئيس المختار صاحب منصب أو تاريخ ومكانة أبرز – أن تظهر قوة الشخصية لدى غير الرئيس من الأعضاء لاحقاً. وما يدور وراء الكواليس من خلاف بين أعضاء اللجنة ينسرب عادة إلى الصحف والمجلّات، وتفضحه قبلها تعليقات وحركات الحكّام أنفسهم، وتبقى الكلمة الفصل في ذلك على كل حال للموسم القادم من البرنامج الذي يشهد في حال احتدام الخلاف انسحاب أحد المتخاصمين، وهو غالباً صاحب الشخصية الأضعف (ليست الضعيفة بالضرورة) بين الخصمين، حرصاً على أن لا يغرق مركب البرنامج بالمتنافسين في وجود قبطانين. وفيما دون الإقصاء بالضربة القاضية مع نهاية الموسم، إضافة إلى الغرض الأساس ممثّلاً في الاستمتاع بالعروض المتنافسة على اختلافها، تظل متابعة العلاقة بين نجوم التحكيم رجوعاً إلى أصولهم العربية أمراً لا يخلو من الإثارة. تبقى المباراة في التقديم والتحكيم والظهور بين نجمين أحدهما من لبنان والآخر من مصر متوازنة إلى حد كبير، والأهم قابلة للتدارك في الغالب بسهولة عند تجاذب الكاميرا ورجحان الكفة لأحد النجمين على حساب الآخر. لا شيء يجعل ذلك التدارك ممكناً - بل سهلاً - أظهر من المرونة والقدرة الفائقة على المراوغة التي تتحلّى بها شخصيّتان عربيّتان عريقتان في تعقيدات الحياة المدنية كاللبنانية والمصرية. ولأن عدد الحالات من البرامج والمشاركين محدود تصعب الاستفاضة في الاستقراء مع الجنسيات العربية الأخرى، لكن الأمر لا يختلف كثيراً بالنسبة للشخصية التونسية والشخصية العراقية بقدر متابعة مشاركتهما وإن قلّت، وكذلك بالنسبة للشخصية السورية والشخصية المغربية مثلاً على سبيل الافتراض دون أن أتذكّر أية مشاركة لأيٍّ منهما في لجنة تحكيم لأي من تلك البرامج، وإن ظلّت مسارح برامج اكتشاف المواهب تغص بالمشاركين، بل والفائزين، من سوريا والمغرب ومن غيرهما من بلاد العرب وفق ما شاهدنا مؤخراً مع استشراء تلك الموضة من المسابقات الفضائية في عصر العولمة. وبرغم أن مشاركات الخليج بالمتسابقين كثيرة في تلك البرامج، فإن موقع الشخصية الخليجية بين أعضاء لجنة التحكيم هو الجدير بالاستقراء عندي. كان ناصر القصبي نموذجيّاً في تمثيل الشخصية الخليجية حكماً في برنامج "أرابز قوت تالنت"، فناصر - الذي يستند إلى شعبية خليجية عريضة وقدر ليس بالعريض البتّة من الانتشار العربي خارج الخليج - بدأ متحفظاً سواء في علاقته مع زملائه من لجنة التحكيم أو في أحكامه على أداء المتبارين، إلى حدّ إنكاره جملة واحدة أحد العروض (أظنه لفن الراب) بوصفه لا يمت إلى الثقافة العربية بصلة. ولعل إنكار بعض أعضاء اللجنة في المقابل على ناصر هذا الرأي ذكّره بأن البرنامج أصلاً مأخوذ عن طبعة أمريكية، إضافة إلى ذلك فإن خبرة الرجل في التعامل مع الجمهور قد حملته سريعاً على تدارك الأمر وتجرّع ذلك الفن إن لم يكن بإجازة أداء المتسابق عن طيب خاطر فبقبول إتاحة فرصة المشاركة العادلة لكل الفنون مهما اختلفت أصولها حول العالم. وبعد عامين تقريباً من ذلك يُسأل علي جابر رئيس لجنة التحكيم اللبناني عن الانسجام بين الأعضاء فيجيب بأنه بلغ ذروته بين الجميع: "أحمد (حلمي) مع نجوى (كرم)، ونجوى معي، وناصر.. مع "حاله".. ومع باقي الأعضاء"، و"مع حاله" هذه عميقة في الدلالة على ما كان يختلج في صدر وفكر شخصية خليجية من المشاعر في مواجهة عربية/عولمية بذلك الصخب. ولأن للنواحي الذاتية - وليست الشخصية القومية/الوطنية فقط - تأثيراً كبيراً في مثل تلك المقامات، فإن حالة ناصر القصبي لا ينبغي أن تُسحب بوصفها قالباً ستنحشر فيه كل شخصية خليجية تتعرض للتجربة ذاتها، فبموازاة تجربة ناصر، وعلى الأرجح قبلها، كانت تجربة أحلام مع "أراب آيدول"، والتي بدت فيها المطربة الإماراتية على النقيض من زميلها الممثل السعودي من حيث الظهور والسطوة بين أعضاء لجنة التحكيم (المنافسين) من لبنان ومصر. ولا يجب أن يؤخذ الفارق بين ناصر وأحلام على أنه بسبب اختلاف المرجعيات الثقافية والاجتماعية انتقالاً في الخليج بين بلدين كالسعودية والإمارت، فلا سبب أظهر من طبيعة الشخصية (الذاتية لا الوطنية) لكلا النجمين. وقد بلغت أحلام من النجاح في إدارة معركة حضارية شرسة في مواجهة الشخصية (الوطنية) اللبنانية ورصيفتها المصرية حدّاً لم يتجسّد فقط في الثبات والسيطرة وإنما إضافة إلى ذلك تُوِّج بإقصاء نجم رفيع المكانة في سماء الطرب العربي الحديث كاللبناني راغب علامة من المشاركة بالاستسلام مع نهاية الموسم.