أستميح القراء عذرا هذا الأسبوع لأفسح المجال للصديق الدكتور حامد فضل الله المثقف السوداني البارز ببرلين، وهو شامة أهل السودان في ألمانيا في الفعل الثقافي المبدع الذي ظل طقسا يؤديه بألفة وشغف طيلة خمسة عقود خلت، رغم مشغولياته المهنية في الحقل الطبي. وهو ناشط حقوقي بارز وعضو منظمة جائزة بن رشد للفكر الحر التي تمنح جائزة سنوية مرموقة في مجال الفكر الإنساني الحر في العالم العربي، هذا إضافة إلى دراسات وترجمات عميقة قدمها عن موضعة الإسلام في أوروبا وتحديات الاندماج الاجتماعي والثقافي للأقليات العربية المهاجرة في ألمانيا. وقد نشر إنتاجه المبدع الذي اشتمل أيضا على مذكراته وإنتاجه الأدبي في النقد والقصص القصيرة في كتاب بعنوان (أحاديث برلينية). شرفني بتقديمه للقارئ العربي. يكفي الدكتور حامد فضل الله أن كتب إليه شاعرنا الفخم صلاح أحمد إبراهيم يشكره على نشر طبعة ثانية من ديوانه غضبة الهبباي ببرلين. خالد موسى في صحبة خالد موسى دفع الله د. حامد فضل الله - برلين لم التقِ أو أتعرف على الأستاذ خالد موسى إلا بعد أن حضر إلى برلين دبلوماسيا في سفارتنا وبعد أن أطلعني الصديق العزيز السفير د. بهاء الدين حنفي الذي كنت أعرفه قبل أن يصبح سفيراً بقوله: لقد أخبرت خالداً بأصدقائي في برلين. والآن يغادرنا خالد بعد ثلاث سنوات إلى موقع دبلوماسي جديد. لم أطلع من قبل على كتاباته في الصحافة إلا عرضا، ولا كنت أعلم أنه دبلوماسي إلا بعد أن تسلم منصب المتحدث الرسمي لوزارة الخارجية، وهنا أيضا لم ألتفت أو أهتم كثيرا لتعليقاته أو مداخلاته، لأننا في الواقع لا نصدق كلام الحكومة. نمتْ بيننا في فترة وجيزة صداقة حميمة، مبعثها الاحترام المتبادل والميول المشتركة فيما يتعلق بقضايا الثقافة والفكر والسياسة. أظهر خالد منذ البداية رغبة شديدة في التعرف على الحياة في ألمانيا والمجتمع الألماني. وأطلعته على مراكز الأبحاث الألمانية مثل: Sudan Forum, MICT, Stiftung Wissenschaft und Politik( SWP), Wissenschaftskolleg ومنظمات المجتمع المدني الألمانية والعربية. كان حُلمنا نحن - البرلينيين - منذ سنوات أن نقيم ندوة وفاءً لذكرى كاتبنا المبدع الطيب صالح. ولقد تحقق هذا الحُلم بمساعدة الأخ خالد موسى فكراً وتنظيما وتُوجت وقائع الندوة الأدبية بإصدار كتاب "الطيب صالح: جسر بين الشرق والغرب"، ضم أبحاثا لم تنشر من قبل وبمشاركة كتاب عرب وسودانيين. وكانت مقدمة الكتاب الرائعة "الطيب صالح من النيل إلى الدانوب"، بقلم خالد موسى، سببا رئيسيا في ذيوع وانتشار الكتاب. وشارك خالد لأول مرة في محاضرة عن الإسلام السياسي قدمها المفكر السوري البارز صادق جلال العظم بدعوة من منتدى الثقافة العربية ومؤسسة ابن رشد للفكر الحر كانت مداخلته واشتباكه مع المحاضر خاصة في ما يتعلق بأفكار المؤرخ والمستشرق البريطاني وكتابه:Benard Lewis What Went Wrong, The Clash Between Islam and Modernity in Midddle East فمداخلته كانت لافتة جذبت انتباه الحضور كوجه جديد لم يشاهدوه من قبل. تم نشر مداخلته المطولة في موقع الحوار المتمدن وصحيفة (السوداني) في الخرطوم. ومشيراً في نفس الوقت إلى المناظرة التي تمت بين صادق العظم والشيخ حسن الترابي في قناة الجزيرة المشهورة. وذهبنا أيضاً معا لحضور محاضرة الروائي اللبناني المعروف إلياس خوري عن الربيع العربي قدمها Wissenschaftskolleg في معهد الدراسات العليا وسط جمع أكاديمي غالبيتهم أساتذة في الجامعات والمعاهد المتخصصة ومجموعة من الأساتذة العرب الزوار من الجامعات العربية. وهو نفس المعهد الذي قدم فيه البروفيسور عبد الله أحمد النعيم محاضرة عام 2009 بعنوان "الشريعة والدولة العلمانية في الشرق الأوسط وأوروبا"، وبمشاركة فولفجانج شويبله وزير الداخلية الألماني سابقا ووزير المالية حاليا وكذلك ديتر جرم القاضي السابق في المحكمة الدستورية الألمانية. وهي المحاضرة الدورية (كل عام) التي تقيمها المؤسسة باسم المستشرق الألماني الكبير والشاعر ووزير الثقافة البرُوسي كار هاينرش بيكر. وقد تعرف خالد على عبد الله النعيم لأول مرة. عندما ذهبنا معا إلى محاضرة النعيم عن العلمانية والدولة المدنية والإسلام الأوروبي بدعوة من الأكاديمية الكاثوليكية في برلين. وقد حضر عبد الله من أمريكا خصيصا لتقديم هذه المحاضرة. وهنا شارك خالد بمداخلة طويلة حيث خالف النعيم في تحليله واستنتاجاته لمسار السياسة ومفهوم الدولة في ظل الخلافة الإسلامية، مما دفع آخرين للمشاركة وإثراء الحوار. وهنا أشير في عجالة لمشاركته المتكررة في المؤتمر السنوي لمنبر السودان في مدينة هيرمانسبورج في ولاية ساكسونيا السفلى وأذكر أنني أشرت إلى دور خالد في هذا المنبر المُهم في مقال لي بعنوان "خالدومات" جاء من ضمنه: "خالد كان دائم الحضور في كل الجلسات، فهو مخزن من المعلومات وحافظة للتواريخ يدعم بهم حجته واعتراضاته بصوت هادئ بعيداً عن التشنج والانفعال. فخالد يقدم خدمة للنظام الحاكم لا يستهان بها ويمثل عبءاً ثقيلاً على المعارضة. وأردفت، وخالد ليس موظفاً فحسب، وإنما أيضاً هو مثقف وكاتب ومبدع، فكيف يستطيع التوفيق بين توجهات النظام وبين أفكاره ومعتقداته والتمييز بين السلطة والعدالة"؟ هل يدفع خالد ثمناً باهظاً من قناعاته وقيمه من أجل الولاء؟ وفي الوقت عينه، فإن الرقابة الذاتية أخطر من رقابة السلطة. فهي خطر عظيم يمكن أن تحطم وتدمر الكاتب والمبدع". هذا المقال لم يقابل بارتياح من بعض الأصدقاء وربما أيضا من خالد نفسه. كان خالد يدفعنا دائماً للنشاط الثقافي. وكون معنا جمعية نيل هافل الثقافية، بدأت بمجموعة صغيرة: د.أمير حمد، الشاعر صلاح يوسف، د.محمد الشريف، جعفر سعد، والأستاذ زهير الكارب، ود.هجو علي هجو؛ ولكنها لم تستمر طويلاً، لتقاعسنا نحن – البرلينيين - على الرغم من ملاحقته الدؤوبة لنا، وعلى الرغم من أن لبرلين تاريخاً طويلاً ورائعاً في المجال الثقافي عن طريق الجمعية الأدبية التي تكونت منذ أكثر من ثلاثين عاماً. الحدث الأكبر والمميز في عام 2014 هو حصول الشيخ راشد الغنوشي على جائزة ابن رشد للفكر الحر. وخالد كان يحرص دائما على حضور الاحتفال بجائزة ابن رشد السنوية. كتب خالد في اليوم التالي مقالاً بعنوان لافت "أفول دولة الترابي وبداية عصر الغنوشي"؛ أولاً منوهاً ومثمناً لهذا الحدث، ثم عقد مقارنة بين أفكار وسياسة الشيخ حسن الترابي والشيخ راشد الغنوشي. فازدادت النيران التي كانت أساساً مشتعلة بسبب الهجوم الصارخ من اليساريين والعلمانيين وخاصة في موقع الحوار المتمدن ضد حصول الشيخ راشد على جائزة ابن رشد. واندلعت المساجلات بينه وبين الدكتور حيدر إبراهيم علي على صفحات الصحف الورقية والإلكترونية، وكان لا بد لي من الدخول في السجال بمقال بعنوان "حيدر والغنوشي: النقاش المنشود والأمل المعقود"، موضحاً ومدافعاً عن قرار لجنة التحكيم المستقلة والمسنود من المؤسسة بصفتي عضو اللجنة الاستشارية لمؤسسة ابن رشد. لا أريد هنا أن أتحدث عن كتاب خالد الضخم والمهم بعنوان "سيرة الترحال عبر الأطلنطي"، وعلى مقالاته الأسبوعية المميزة. وإنما أشير في عجالة لثلاث سنوات في صحبة خالد وكم سعدت بها كثيراً وكانت فرصة نادرة للتعرف على بعضنا البعض وكنا نلتقي أحياناً بحكم واجباته الوظيفية والتزاماته الأسرية في الساعة العاشرة أو الحادية عشر ليلاً، لمناقشة كتاب أو مراجعة مقال، أو إشارة إلى الإصدارات الجديدة. وكان يُرسل لي أحياناً تكرماً منه مقاله الأسبوعي قبل النشر. وعنما أطلعته على مقالاتي وترجماتي عن الألمانية، اقترح على أن أنشرها في كتاب. وفي الواقع، لم أهتم بهذا الأمر، بل كنت عازفاً عن ذلك رغم إلحاح خالد. وكانت المفاجأة عندما وصلتني مقدمته للكتاب واقتراح لترتيب المواد حسب خبرته الصحفية والكتابية. وهكذا وُلد كتابي "أحاديث برلينية" والذي حظي باستقبال أدهشني وتمت مراجعته من ثمانية كتاب مرموقين. وهذا يعود في الأساس إلى مقدمة خالد الضافية والرائعة. وإنني لا أقول ذلك تواضعاً مني أو تقليلاً من قيمة الكتاب، وإنما أقول ما هو حق وحقيقة وحفظ الجميل. إنني أعرف توجهات خالد الفكرية وقناعاته العقائدية وموقعه الوظيفي، وأنا كعلماني فكراً وممارسة، أمتلك القدرة على الفصل بين الخلافات السياسية والفكرية والعقائدية والأيدولوجية وبين العلاقات الإنسانية. وخالد له حضور إنساني فريد ونكران ذات. إذا أردت أن تعرف من هو خالد موسى، فلا تحتاج إلى قراءة كتابه الضخم "سيرة الترحال عبر الأطلنطي"، والذي كتبتُ عنه بقولي: هذا كتاب شيق تدهشك عمق المادة وجزالة اللغة وجمال الوصف ودقة التعبير"؛ ولا أن تعود إلى مقالاته الأسبوعية بما فيها من تحليل موضوعي ومادة حاضرة، ولا أن تنتظر وقتاً طويلاً حتى تتعرف عليه أكثر وأكثر؛ كل هذا لا تحتاجه. وإنما عليك فقط إذا أردت أن تعرف خالداً، أن تفتح الصفحة الحادية عشرة من كتابه "سيرة الترحال..." وهي الصفحة الأولى من عشرين صفحة لمقدمة الكتاب التي كتبها العالم الجليل البروفيسور عبد الله علي إبراهيم، ولا تحتاج إلى قراءة المقدمة الرائعة، وإنما فقط عليك أن تقرأ عنوان المقدمة. والعنوان يتكون فقط من كلمتين، والكلمتان هما ضد الهرج. هذا هو خالد موسى. عند مغادرة د.بهاء الدين حنفي لبرلين، قال لي: الحمد لله لقد انتهت الرسميات والألقاب والرُّتب. وفي الواقع هو ما كان يحفل بذلك، ولكنني كنت أصر عليها اعتباراً لما يفرضه المنصب الرفيع. فيا خالد أقولها الآن حافة ومجردة، كم سعدت بصحبتك الطيبة الثرية ولا شك يشاركني في ذلك أيضاً الصديق الشاعر د.أمير حمد، إذا سمح لي أن اتحدث باسمه، فكلانا من أكثر وأكبر الخاسرين برحيلك عن برلين إلى جنيف. نتمنى لك السلامة والعافية والتوفيق في موقعك الجديد. وأرجو أن تتذكر بأن لك أصدقاء في برلين. Lieber Khalid, vergiss nicht, dass Du in Berlin Freunde hast.