مفكرون وكتاب كُثر أنجبتهم الحضارتان- وأختصر الأمر في مفَكِّرَين إسلامِيَّين هما محمد قطب ومالك بن نبي رحمهما الله وفي الغرب هنتجتون وفوكوياما ولا سبيل لحصر العراك الفكري والتفسيرات التي لا يجمعها جامع في مواقفهم هنتجتون وفوكوياما بشَّرَا العالم بانتصار الرأسمالية الليبرالية ومنطقية فرضها على العالم باعتبارها وسيلة إسعاده الأخيرة والوحيدة - وعلى نحوٍ مغاير تماماً لذلك يرى قطب وبن نبي أن خلاص العالم هو في إخراجه في النهاية من الظلمات إلى النور بشعاع الإسلام وقد بيَّن بن نبي أن الحضارة الغربية لاشأن لها بالرُسل والأنبياء وعلى نحو معاكس لذلك الحضارة الشرقية التي بُنِيَت على أعلى موايثق الرسل والأنبياء فالرسل والأنبياء جميعهم أرسلوا من الجزيرة العربية والعراق ومصر ولم يُبعث خارجها رسول أوروبي، وبالطبع يسرى ذلك على القارتين اللتين التحقتا بالعالم مؤخراً (الأمريكتين وأستراليا)، وحتى أكثر الدول كثافة بالسكان الصين والهند لم تخلُ من الديانات البشرية الكونفوشوسية والهندية الهندوسية وبالطبع لا نعلم شيئاً عن الأنبياء الذين لم يؤمروا بتبليغ الرسالات ففي ذكرهم تقول الآية الكريمة: (وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ). المهم أن العالم لم يسمع برسولٍ أوروبي أو أمريكي. ليس ذلك فحسب، بل أن أعظم مقدسات الديانات الثلاث هي أيضاً في هذه المنطقة؛ فقد جَمَعت مكةالمكرمة والمسجد النبوي الشريف في المدينة والقدس الشريف الذي يلتقي في تبجيله المسلمون والمسيحون واليهود وفيما تُزَيِّن حياة المسلمين هذه الرسالات، فإن الغرب ينصرف بميراثه التاريخي النافذ في ترات الامبراطوريتين، الرومانية والإغريقية، في تقديس الفن والفنانين يقول محمد قطب أنه قرأ في التاريخ اليوناني عن مسرحية تصف قبل الميلاد سباق الفتيات عاريات، ويضيف بن نبى أن تبجيل الفنانين يكاد يساوي تعظيم المسلمين لأصحاب الرسالات أنظر لوحة مثل الموناليزا (الجيوكندا) التي رسمها ليوناردو دافتشي الإيطالي من فناني عصر النهضة في القرن السادس عشر، ويستحيل أن يقدر سعرها بثمن، فقد قضى في رسمها ست سنوات، وجاء من بعده فان كوخ ثم بيكاسو وآخر ما أُميط اللثام عنه ما نَقلته BBC عن ذلك الفنان الهولندي الذي لم يكن يملك ثمن إفطاره وبيعت لوحته في مطلع يناير الماضي بثلاثة ملايين يورو والفنون هي التي تتصدر الشوارع وتمجد المشاهير تضم أيضاً تماثيلاً عارية تماماً لرجال ونساء، ولا يُنظر إلى ذلك في الغرب من باب التحريم أو العيب ولا يكاد تخلو صحيفة أو إعلان تجاري من فتاة اختيرت بقصد الترويج للسلعة، إما بسبب جمالها أو الإثارة الجنسية التي يستثيرها جسدها العاري وكل ذلك محرم تماماً في حضارة الشرق التي تمنع الأديان فيها السفور المؤدي لكشف العورة والستر الواجب للمرأة والرجل على حد سواء.. ومن هنا ينشأ الصدام بين النقاب والحجاب بسبب الستر والتعري وكشف الجسم من منظور إفساح المجال في أقصى مداه للفن والجمال إن ما يُنظر إليه في الغرب من باب حرية الإنسان في اختيار ملبسه ومظهره دون أدنى قيد، ينظر إليه في العالم الإسلامي من باب الابتذال الجسدي المؤدي لجرائم الزنا والاغتصاب وعكس ذلك تماماً حين يرى الغربي امرأة منقبة فهي من منظوره أسيرة كبت ورجعية متخلفة لرجولة مسيطرة قاسية هدفها اضطهاد المرأة، أما المسلم يرى في التعري انتهاك وضيع يستغل به أجساد النساء فتستعر بسببهم الغرائز، وخاصة المراهقين ومن هم في مطلع الشباب، مما يؤدي إلى استعار هياجهم الجنسي، ويسقط هذا الاعتبار في الغرب لأن العلاقات الجنسية ليست محدودة فقط بالزواج إنها طليقة وتجوز إن اتفق رجل وأمراة بل ويبيح زواج الشواذ. وإذا استرسلنا في عرض ألواح التدابر السياسي الاقتصادي وما أفرزه انزواء المعسكر الاشتراكي واستفراد الولاياتالمتحدة بزعامة العالم العسكرية والاقتصادية، التي وصفت آنذاك بأنها القوة الأعظم. لقد أفرز الانغماس الأمريكي العسكري في شئون الدول العربية والإسلامية كوارثاً ما تزال حصيدها يتنامى وينتج مع مشرق كل شمس حصاداً دموياً وهلاكاً بشرياً يجل عن الوصف ولقد ذهب محللون غربيون كثر لإدانة هذا الغزو وحذروا من تبعاته وكانت أمرّ ثمراته تنامي حركات إرهابية متطرفة في الغرب والشرق على حدٍّ سواء، وقد أوردنا نموذجاً لها في الغرب مثل حركة PEGIDA (وطنيون أوربيون ضد أسلمة الغرب)، وفي فرنسا حزب الجبهة الوطنية بزعامة ماريان ابنة مؤسسة (جان مارى لوبين وكلا المجموعتين يضمران عداءً سافراً للمسلمين، وإذا كان فوكوياما قد أمَّن في العقدين السابقين على أحقية الانتصار الليبرالي الرأسمالي وحيازة أمريكا على أعنة العالم قهراً واقتداراً فقد صدر في العام الماضي كتاب (القبائل وتشكيل الدولة في الشرق الأوسط) لمؤلفه فيليب خوري أستاذ التاريخ بجامعة ماساتشوستس للتكنولوجيا، وقد أحسن المهندس حسب الله النور سليمان الذي قدم استعراضاً مختصراً لأخطر ما ورد فيه ومن ذلك (مخطط بعيد لتقسيم الشرق الأوسط إما على أساس قبلي أو طائفي أو إثني)، وينقل عن مجلة السياسة الدولية الأمريكية تحليلاً جاء فيه (إن الطريقة المريبة التي استولت بها داعش على كثير من المناطق العسكرية ساعدت الأكراد في الاستيلاء على كركوك، مما يجعل تلك المنطقة خاضعة بأسرها للتقسيم ويضيف عن الباحث البريطاني بيرنارد لويس أنه أصدر أول مخطط مكتوب ومدعوم بالخرائط لتقسيم المنطقة منذ عام 1980م وكان عنوانه (التعامل مع دول متهاوية واستراتيجية موازين القوى الغربية والإسرائيلية للهلال الخصيب) وعن مؤسسة الدراسات الاستراتيجية بواشنطون والقدس (إن الحل يكمن في إعادة بناء دول عربية جديدة تتمحور حول العائلات والقبائل، ويشير في هذا الصدد إلى تقسيم العراق إلى سنة وشيعة وأكراد لكل دولته المستقلة ودور أمريكا في تحويل الحرب في سوريا إلى حرب أهلية، والاقتتال في ليبيا على أساس قبلي واليمن على أساس طائفي). وعن السودان يقول أن التقسيم وقع فعلاً بفصل الجنوب، ثم ادعاءات قطاع الشمال بالحكم الذاتي لدارفور والنيل الأزرق). وكنت قد نشرت موضوعاً مفصلاً العام الماضي، ونقلت فيه رأياً مفصلاً عن هذا التقسيم من كتاب الأساطير المؤسسة للدولة الإسرائيلية لمؤلفه الفرنسي وسأختصر أهم نقاطه لاحقاً. وأيَّاً كان الأمر، فإن الغموض يكتنف تأسيس حركة داعش وممارساتها الإرهابية التي تتناقض في تقتيلها وغزوها الباطش لكل موقع لا يتفق مع مخططاتها مع أركان الإسلام الذي أرسى قواعد التعايش السلمي، ونهى عن الإكراه في الدين والبطش بالمعارضين بغير الحق. ويسترسل مؤرخون آخرون في رصد خوفهم من غزو إسلامي للغرب فيعيدون للأذهان الحصار الذي ضربته قوات السلطان العثماني مصطفى باشا عام 1983م على فينّا والمجر وبوليفيا واستشهاد هؤلاء بالتاريخ يأتي في مجال الرصد والتحذير من حاضر العالم الإسلامي والعنف الذي تبرزه حركة داعش وتغولها في إفريقيا عندما أعلنت حركة بوكوحرام (الجماعة السنية للدعوة والجهاد) مبايعتها لخليفة المسلمين المزعوم في بغداد ولا يعلم أحد إن كان هذا الخليفة الذي فرض نفسه على مليار من المسلمين يعرف اسم مدينتين فقط في نيجيريا ومئات القضايا المعقدة التي تكبل ذلك البلد الإفريقي؟! لقد آثر هؤلاء المتطرفون أن يقدموا الإسلام للعالم في أسوأ صورة فلا تعرض مواقفهم الإعلامية إلا القتل والذبح والدمار والتشريد لا يطالون بذلك المسالمين من غير الملل والديانات الأخرى الذين عاشوا كمواطنين في العراقوسوريا واليمن وليبيا منذ آلاف السنين، ولكنهم يعتدون غيلة وعدواناً على أبناء ملتهم من المسلمين وربما استنصروا في فقهم المنحرف بأن كل من كان على غير ملتهم فهو كافر، يراق دمه دون رحمة إنهم خوارج هذا القرن. وهؤلاء هم الذين يشحذون همم الحركات العنصرية المتطرفة المعادية للمسلمين في الغرب، ويجعلون حال الأقليات المسلمة التي تعيش هناك أقرب وصفاً للإرهابيين الذين يهددون حالة الغرب الأمنية مما يجعلهم عرضة للعزل والتطفيف في سائر المعاملات، وما هو أبعد أثراً من ذلك أن أية دعوة مسالمة مهما كانت درجة البعد فيها عن الغلو والتطرف تستهدف شرح الإسلام أو نشره ستكون موضعاً للشك والاتهام وربما الإعسار والتضييق على المساجد بحسبان أنها ربما تكون مكمناً للمتطرفين والداعين للجهاد في أوروبا.. إلى هذا الحد تعيق هذه الحركات المتطرفة التي تقول النشرات الأمنية الغربية أن مئات الشباب بل والفتيات من أبناء المسلمين الذين ولودا وعاشوا في أوروبا قد انجذبوا لهذه النداءات الصاخبة للجهاد وانضموا إلى صفوف المقاتلين في سورياوالعراق وتُبرز الميديا الغربية هلعاً متزايداً من عودة هؤلاء المتطرفين، وربما شحنوا بطاقات هائلة لارتكاب أعمال إرهابية داخل هذه البلدان التي ولدوا وتربوا فيها ويحملون جنسيتها. والسؤال هو: ترى ماذا كسب المسلمون من هذا البلاء الداعش؟! ليس فقط في العالم الخارجي بل في داخل البلاد الإسلامية؟ غموض كثيف يحيط بداعش، وتتنامى الأسئلة حول غموض أهدافها وتأسيسها ابتداءً من اقتحامها فجأة لساحة العالم العسكري والسياسية... والسؤال هو كيف يمكن لجيش مقاتل قوامه في بعض التقديرات ما بين عشرين إلى أربعين ألفاً أن يظل مخبأ عن مخابرات العالم بأقمارها الصناعية وطائراتها العسكرية التي تجوب الآفاق وجواسيس أكثر من عشرين دولة كبرى أوروبية وأخرى عربية وفارسية؟.. كيف اختبأت داعش عن كل هذا الحصار ومراقبته المتفرِّسة على مدار العام، واستطاعت أن تجمع أسلحتها الصغرى والكبرى بمليارات الدولارات وتُدَرِّب هؤلاء المقاتلين والقادمين من كل بقاع الأرض ولا يثير أمرها من يتشدقون الآن بالقضاء على تنظيمها الإرهابي؟! لقد أحدثت داعش بممارساتها العدوانية شرخاً في البنيان الإسلامي وسلامة تعاطيه المسالمة مع غير المسلمين. وباختصار، فإن داعش هي (بيجيدا) كما وصفها رئيس الوزراء التركي أحمد داؤود أوغلو والأجدر أن تسمى (دا مُوت). *** من أكبر الأخطاء في تصعيد الصراع بين الشرق والغرب هو التعميم في تحليل الأحداث فكما أن الشرق الإسلامي ليس جميعه كتلة واحدة فكذلك الغرب المسيحي بل أن المسيحين في المشرق (الأقباط) وسكان الشام يختلفون تماماً في عقيدتهم عن مسيحيي الغرب، ومنهم من يعتقد كما ذكر أحد القساوسة الشامين الذين استضافتهم قناة (دويتش فيلا الألمانية) أن الغرب ليس فيه مسيحية، والذين خالطوا الأقباط، سواء بالجوار أو الزمالة في أماكن العمل، يشهدون لهم بالود والتحلي بالصدق والأمانة والفضائل التي نصت عليها الأديان وحتى نبرهن على أن الغرب ليس كله جبهة واحدة فإن فيه مجموعات ومنظمات ذات أهداف إنسانية تساعد بها المحتاجين في كل بقاع الأرض لكن هذا لا ينفي وجود منظمات خبيثة ذات أهداف شيطانية وهذه تتستر خلف لافتات إنسانية لتحقيق مآرب مدمرة في بلدان العالم النامي، وللتفريق بين المجموعتين أذكر الدفاع الذي تصدت له مجموعات غريبة عقب هجمة ابيدا العنصرية وتظاهرات المعادين للمسلمين من وراء شعار (أنا شارلي) وقف هؤلاء صفاً واحداً يستنكرون موجة العداء التي تدمغ المسلمين جملة واحدة وتصفهم بالإرهاب. وفي المقابل فإن من التعميم غير العادل في حق غير المسلمين.. عندما يتحدث بعض الخطباء عن النصارى.. هؤلاء ينصرف ذهنهم تماماً إلى الغرب والاستعمار وغزو بوش للعراق ولا يضعون في اعتبارهم مطلقاً بهذا التعميم أن بعض هؤلاء النصارى مواطنون مولودون في هذا البلد، وهم يعتبرونه وطنهم الذي نشأوا فيه أباً عن جد ليس ذلك فحسب، فإنهم بحق المواطنة المكتسب (لهم مالنا وعليهم ما علينا)، وهم يتحدثون بلهجتنا ويجاورون إخوانهم المسلمين في السكن وفي العمل ومنهم من يشغل مواقع وزارية وجميعهم من المسالمين الذين يراعون بطول الجوار والتقاليد السودانية ولا يشذون عنها حتى في مشاركة جيرانهم وزملائهم في الأفراح والأتراح، ومن المهم أن نؤكد حق المواطنة (لهم مالنا وعليهم ما علينا). إن مسألة التعايش المسالم بين الأديان مسألة في غاية الخطورة والأهمية في هذا الزمان الذي يشهد عراكاً مأفوناً وفتاوٍ متطرفة لا همَّ لها غير تفجير الخصومات، ليس بين الأديان فقط ولكن حتى بين الطائفة الواحدة في الدين الواحد والملة الواحدة. ولا أريد أن أقتحم السلطة بعراك فقهي لا يفيد القارئ في شيء وحسبي كمسلم أن حقيقة (المدنية) وضعت في ذلك الزمان البعيد قواعد راشدة لهذا التعايش المنشود. وأن اهتدينا ببصيرة النبوة الخالدة وحكمتها الأزلية وهو الذي وقف منذ ذلك الزمان لجنازة يهودي يا لها من حكمة نبوية عظيمة قفزت فوق تقلُّبات الزمان وأرست القاعدة الفاضلة لما يُسمى الآن التعايش السلمي ولما سُئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن معنى وقوفه لجنازة يهودي أجاب بلسان أفضل الخلق ما معناه (أليست روح آدمي؟). وهنا أسأل الذين يجمعون النصارى في سلة واحدة، إذا كان جارك نصراني وحياك وشاركك في كل مناشط حياتك هل تقابله وأنت مقطب الوجه ولا تجيبه؟ وكذا كان زميلك في العمل؟ أو كان طبيباً نصرانياً مد يده لك كمريض وحياك هل ترفض تحيته؟ ويسري ذلك بصورة أوسع على التجمعات الإنسانية التي يكون فيها التواصل الاجتماعي أوسع وأكبر؛ دعونا من دعوات الفجور في الخصام ونسأل الله أن يجعل مجتمعنا ودوداً لا يُظلم فيه أحد.