ساقتني اقدار الله عز وجل-ولله الحمد من قبل ومن بعد- للعمل في كافة الاجهزة المناط بها تحقيق العدالة في البلاد، فعملت ما يقارب العقدين من الزمان بالسلطة القضائية، ثم انتدبت وكيلا لوزارة العدل فعملت يها تسع سنوات ثم غادرتها للمحاماة. ما اشرت اليه آنفا لم اورده على سبيل المباهاة، حاشا وكلا، وانما لااذكر اولئك الذين يودون حرماني من بنوة وزارة العدل. انا ابن الوزارة ولااجد ما ارد به على اولئك النفر الا قول شاعر الحب والوجدان التيجاني يوسف بشير رحمه الله تعالى:. هو معهدي ولئن حفظت صنيعه فانا ابن سرحته الذي غنى به فأعيذ ناشئة التقى أن يرجفوا بفتى يمت اليه في احسابه وهذه الشنشة اعادوها عقب تعيين الاخ الوزير د. عوض، فتحدثوا عن وصاية القضائية على القصر ( بضم القاف )، وعن كوادر الوزارة التي تسد عين الشمس. صدقوا في قولهم للوزارة كوادر تسد عين الشمس خلقا وعلما، لكنهم جهلوا تاريخ القضائية ووزارة العدل، لقد شهد التاريخ تناوب ابناء القضائية والوزارة في الانتقال من هنا وهناك، والامثلة يطول ذكرها، لكنني وفي اشارة مقتضبة اشير إلى رموز، فالراحل جلال علي لطفي كان قاضيا ثم نائبا عاما ثم رئيسا للقضاء، ومولانا الراحل حافظ الشيخ الزاكي كان مستشارا قانونيا بوزارة العدل ثم رئيسا للقضاء ، والراحل شوقي حسين الافندي كان مستشارا قانونيا ووكيلا لوزارة العدل ثم نائبا لرئيس القضاء. فالعلاقة بين القضائية ووزارة العدل اكبر من أن نحصرها في مناصب -وإن عظم شأنها-، فهما يشتركان في هم تحقيق العدالة ونصب ميزان الحق بين العباد وأعظم به من غاية. ساقني لكتابة هذا المقال تعيين الاخ د. عوض الحسن النور وزيرا للعدل، فقد خبرت الرجل قاضيا واداريا بالسلطة القضائية، ولا اود أن اقصم ظهره، او ازكيه على الله، لكنني اقول إن منصب الوزارة قد كسب رجلا ذا خلق و علم، وأملي في الله أن يوفقه وأن تستفيد منه البلاد. وبحكم خبرتي وعملي في وزارة العدل احببت أن اتناول بعض القضايا عسى أن يكون في ذلك عونا للاخ الوزير في الاصلاح والتقويم، اردت أن اطرح اهم التحديات التي تواجه الاخ الوزير. أخطر وأعظم التحديات التي تواجه وزير العدل هي صورة الوزارة في مخيلة الرأي العام السوداني. الرأي العام السوداني يختزل في مخيلته صورة غير محببة ولا مرغوبه للوزارة، وهذا الذي ذكرته ليس رأيا انفرد به فقد سبقني وتناوله كبار كتاب الاعمدة بالصحف اليومية وقتلوه شرحا وتوضيحا. سلوك الوزارة وتصرفها تجاه بعض القضايا التي شغلت الرأي العام اعطت انطباعا غير حميد عنها. كلنا يذكر قضية المستشار بعد تناولها من قبل صحيفة السوداني، والمنعرجات فيما سمي تحقيقا زورا وبهتانا، وسحق قواعد القانون بأحذية غلاظ، ومن ثم ما قام به ممثل الاتهام حتى أن استاذنا الجليل المحامي هاشم ابوبكر الجعلي وفي مقال منشور قال( إن ذلك سقوط اخلاقي قبل أن يكون سقوطا مهنيا). تلى ذلك ما عرف بقضية مكتب والي الخرطوم وكان تصرف الوزارة تجاهها مثيرا للدهشة حيث طلبت التحلل من المتهمين، ولما حاصرت عاصفة النقد الوزارة من كل حدب وصوب تدخل الوزير فألغى القرار وامر بفتح بلاغ، هذا البلاغ انضم إلى سلسلة الغول والعنقاء والخل الوفي. ثم لحق بذلك المسلسل قضايا وان بدت داخلية. الا انها تشترك في ذات السمة اغفال إعمال مبدأ سيادة حكم القانون. من تلك القضايا قرار وزير العدل السابق بحل الجمعية الخيرية للمستشارين دون سند من القانون ،قام نفر من المستشارين وفي اول سابقة في تاريخ الوزارة برفع دعوى لإبطال قرار وزير العدل السابق ، فكان لهم ما ارادوا حيث الغت المحكمة العليا القرار ووصفته بالقرار المعيب لمخالفته صريح نصوص القانون. لكن السؤال الاهم الذي طرح لمصلحة من كان حل الجمعية الخيرية للمستشارين . لم ننتظر كثيرا فقد جاءنا الرد في ثنايا تقرير لجنة التسيير الصادر في سبتمبر 2013 برئاسة المستشار العام ابراهيم هارون وفي قرار المحكمة العليا الذي اشار على مفوض الجمعيات الطوعية لانتداب مراجع لمراجعة حسابات الجمعية. كذلك لم تتأخر قيادة الوزارة كثيرا في القصاص ممن اعد التقرير او قاد المستشارين لرفع الدعوى. كان مصير المستشار العام ( يعادل قاضي محكمة عليا) ابراهيم هارون أن نقل من رئيس الادارة القانونية لوحدة تنفيذ السدود بكل ثقل عملها القانوني إلى وحدة صغيرة اعتذر له مديرها من عدم وجود مكتب له او اي معينات للعمل ،فعاد للوزارة واخطرها وطلبت منه الانتظار، ولايزال منذ ما يجاوز الثمانية اشهر دون اعباء. صدم الوزير الحديد بتلك الواقعة عندما قال المستشار العام ابراهيم هارون انه بدون اعباء امام الملأ في قاعة الوزارة. صدمت الوزير جاءت لمعرفته الشخصية بالمستشار العام ابراهيم اثناء دراستهما لدرجة الماجستير بجامعة القاهرة الام. مما خفف الالم شهادة الوزير انه من اكفأ العاملين بالحقل القانوني، بل أن الوزير وامام الملأ قال انه لن يتردد في نقل المستشار العام ابراهيم لأي وحدة يرغب بالعمل فيها لعلمه بمقدراته العلمية وخبرته العملية. اما من قاد المستشارين لرفع الدعوى لابطال قرار الوزير بحل الجمعية الخيرية للمستشارين المستشار ياسر الحسن فقد نقل للدمازين، وكان الظن انه لن ينفذ، هذا الظن تأسس على مقدراته العلمية وخبرته العملية، لكنه ابطل الكيد فنفذ لكن ذلك لم يشفع له. المستشار العام ياسر الحسن كان رئيسا لادارة حقوق الانسان وانتخبه القادة الافارقة في مؤتمرهم بأديس ابابا عضوا باللجنة الافريقية لحقوق الانسان ونظرا لكفاءته اختارته اللجنة نائبا للرئيس لدورتين ثم رئيسا للجنة عندما عين رئيسها سفيرا لبلاده، اضافة لاجادته اللغة الانجليزية وتحدثه باللغة الفرنسية. قلت لم يشفع له تنفيذ النقل اذ مرضت والدته المسنة فاضطر لطلب اجازته وسافر لحرج حالتها ولكن ذاك لم يشفع له اذ فصل بعد ثلاثين يوما بحجة الغياب دون عذر. لكن للوصول لتلك الحجة كان لابد من تعديل اللائحة لتنص على الثلاثين يوما بدلا من ال45 يوما التي كانت تنص عليها وينص عليها القانون. فانظر حفظك الله لسيادة حكم القانون. طبعا هذه مخالفة يعلمها حتى راعي الضأن في الخلاء كما يقول المثل، لكن الغرض مرض . شرفني الاخ ياسر بتكليفي كمحام برفع دعوى لابطال قرار فصله ، وكعهدنا به كان القضاء السوداني كحد السيف باترا فقضى ببطلان القرار لمخالفته للقانون. الا أن الاخ ياسر لم ينتظر كل ذلك فهاجر ، ربما يكون قد ربح على المستوى الشخصي لكن المؤكد خسارة البلاد لاحد ابنائها المؤهلين. صدر القرار ببطلان الفصل وتأييد من قبل المحكمة العليا لكن الوزارة المعنية بسيادة حكم القانون لم تنفذه حتى لحظة كتابتي لهذا المقال ، رغم أن صريح القانون ينص على أن الاحكام القضائية واجبة النفاذ من تاريخ صدورها الا اذا رأت المحكمة الاعلى خلاف ذلك وهذا ما لم يحدث في هذه الدعوى . كل هذه الاحداث القت بظلال من الشك في مصداقية الوزارة وسعيها لانفاذ احدى واجباتها الا وهو سيادة حكم القانون. لذا فالمؤمل من الوزير الجديد أن يعيد الامور إلى نصابها وان يحقق سيادة حكم القانون فعلا لا قولا. وان جاز لشخصي الضعيف أن يقترح فانني اقترح أن تسحب الوزارة طلبات المراجعة التي تقدمت بها في مواجهة قرارات المحكمة العليا في بعض القضايا التي اشرت اليها آنفا. هذا الاجراء سيعطي اولا مصداقية للوزارة ويعزز التزامها بسيادة حكم القانون وسيجنب الوزارة خسارة اضافية لا داعي لها. تلك في ظني المهمة الاولة والجديرة بالعناية، واحسب أن جمهرة المستشارين الغالبة ستتلقى تلك الاشارات بحسبان انها عودة الوعي لوزارتهم مما يحفرهم على مزيد عطاء وبذل. تحسين صورة الوزارة امام الرأي العام واعادة الثقة فيها بحسبانها القيِّم على سيادة حكم القانون هو التحدي الاخطر الذي يتبدى امام الاخ الوزير. لاشك أن هنالك تحديات اخرى، واحسب أن خبرة الوزير ومقدرته الادارية ستمكنه من وضع اليد عليها. لكننا وما دمنا قد رأينا أن نعين الوزير فلا بأس من ايراد بعضها. من التحديات العظمى الوضع المؤسسي للنيابة العامة. لقد سبق لي أن كتبت حلقات في وضع النيابة العامة وذلك امتدادا لموقفي منذ أن كنت وكيلا للوزارة في العام2002. الاخ الوزير كان قاضيا وباشر العمل الجنائي فترة طويلة وعاصر وقت كان القضاة يشرفون على التحري ولا شك انه تابع التحول الذي طرأ بعد العام 1991. لا اريد أن تفهم اشارتي تلك انني احبذ العودة لما كان سائدا قبل سنة 1991 ، لا ليس هذا ما يشغلني، همي الاول والاخير استقلال النيابة العامة عن الوزير السياسي بغض النظر عن شخص الوزير او لونه السياسي والا يكون القرار الفني في الدعوى الجنائية بيد الوزير. إن تحقق هذا الهدف لا يهمني كثيرا لمن تتبع النيابة اداريا. عرف عن الاخ الوزير الحالي اهتمامه وحرصه على ادخال التقنية الحديثة لتطوير العمل العدلي، واحسب أن الوزارة في امس الحاجة لذلك. المطلع على موقع الوزارة على الشبكة يجد أن قوانين السودان المنشورة هي الطبعة الالكترونيه الرابعة والصادرة حتي 31 ديسمبر 2010، تخيل كم من القوانين صدرت بعد ذلك العام ،وكم من التعديلات ادخلت على القوانين المنشورة ، واحسب أن افضل ما يقال هنا قول الشاعر، ولم ار في عيوب الناس شيئا كعجز القادرين عن التمام وذات الامر ينطبق على النسخة الورقية من الطبعة المراجعة. وزارة العدل ليست محض وزارة تنفيذية ، بل هي اعم من ذلك واشمل فيها شيء من التنفيذ وآخر من القضاء ،لذا تكتسب اهمية خاصة، ففي شقها القضائي هي لصيقة بالعمل الجنائي وهي كذلك بوابة العبور للعمل الاقتصادي والمالي من حيث تأسيس الشركات والشراكات واسماء الاعمال، ومن حيث حسن سير العمل التجاري من قبيل حفظ حقوق الملكية الفكرية وبراءات الاختراع والعلامات التجارية. وفوق ذاك فهي التي تعد التشريعات وتضبط صياغتها، وهي من تدافع عن الحكومة ومؤسساتها امام القضاء المدني او هيئات التحكيم، وهي معنية بحقوق الانسان من حيث التزام الدولة بالاتفاقيات التي هي طرف فيها والتقارير الدورية التي تعد بموجب تلك الاتفاقيات، وهي الضابط لعقود الحكومة والتأكد من موافقتها للقوانين، وهي من بعد ذلك المعينة للفقراء ممن لا يملكون نفقات الخدمة القانونية الخاصة فتسعفهم بعونها القانوني. باختصار وزارة العدل وزارة كبيرة او هكذا ينبغي أن تكون ووقعها في الحياة العامة كبير ، حسن ذلك الوقع ام كان سيئا. ونختم بالدعاء أن يوفق الله الاخ الوزير لما فيه خير البلاد والعباد. * قاضي محكمة الاستئناف الاسبق ووكيل وزارة العدل السابق- وعضو منظمة الشفافية السودانية. عبدالدائم زمراوي... المحامي* Zumrawi 2007@gmail. Com.