(إنها كما الحمى دخلت جسد الحركة الإسلامية ومن المستحيل خروجها منه الآن)، مرة أخرى وللمرة الثالثة على التوالي أبدأ هذا المقال بذات هذه الكلمات التي كانت أولى كلمات الدكتور حسن الترابي وقد أطلقها في أعقاب نشر نص مذكرة العشرة التي صدرت منذ أكثر من عقد كامل من الزمان، وانتهت إلى الانقسام الشهير للحركة الإسلامية، إنها كالحمى، لن تخرج أبداً، هل أصبح هذا الحال الآن هو بالفعل الواقع المعاش للحركة الإسلامية في أعقاب صدور المذكرة الأخيرة التي أسماها بعضهم مذكرة الألف؟ وماذا عن صدور مذكرة أخرى وجدت طريقها للنشر نهاية الأسبوع الماضي تحت اسم المذكرة الإطارية مقدمة لنصها الأول باعتباره الورقة الأولى؟ هل سيعزز هذا التطور هذه الحالة من الحمى أم يشكل بظنون البعض وتأويلاتهم منعطفاً محطماً ولاغياً أثرا كبيرا وتاريخيا كان من الممكن أن تحدثه وتنجح فيه المذكرة الأولى التي أطلق عليها مذكرة الألف؟ المذكرة الجديدة أشير إلى أنها هي أصل المبادرة وأن الآخرين و(المقصود هنا بالطبع من أخرجوا ما أسموه بمذكرة الألف) قد أصدروا مذكرة أخرى في إيحاء لا يخفى على أحد بأن لدى هؤلاء هدف ما من هذا الاستباق لمذكرتهم، هذا ما فهم من المذكرة الجديدة التي اختلفت في روحها ولغتها اختلافاً تاماً عن الأولى على نحو يصنف طرحها ضمن الطرح الثوري الجريئ والقوي والمباشر دون تلاعب بالكلمات والعبارات ودون استخدام للمحتوى والتعبير الدبلوماسي الحذر بل على العكس جاء طرح هؤلاء (الإطاريين) الثوريين عنيفاً حاداً لا يخلو من نبرات الغضب والحنق، هذا فيما يوشك الخلاف الجوهري بين الطرحين أن يتمحور في إقرار المذكرة الأولى بسلامة قرار قادة الحركة الإسلامية الذي قاد إلى الاستيلاء على السلطة في 1989م مستندة على ما ساقته من مبررات دارت حول فقه الضرورة وما يتعلق باستباق (الأعداء) الذين كانوا سيستلمون الحكم في حال التأخر والتباطؤ في القيام بهذه الخطوة إلى جانب الأسباب الأخرى التي ساقها هؤلاء مبررات دعت بموضوعيتها كما قالوا لاتخاذ مثل هذا القرار. أما (الإطاريون) أصحاب المذكرة الإطارية الأخيرة فقد أعلنوا بوضوح تام لأول مرة في تاريخ الإسلاميين (إذا ما استثنيت تصريحات قادة المؤتمر الشعبي المنشقين بقيادة الدكتور الترابي وبعض معاونيه البارزين وآخرهم المحبوب عبد السلام بثقله الفكري والتنظيري القريب من الفضاء العقلي والفكري للدكتور الترابي)، باستثناء هؤلاء المنشقين عن أنصار المؤتمر الوطني الذين لازالوا على سدة الحكم وإذا ما صح وكانت هذه المذكرة معبرة عن مجموعة مؤثرة في الحركة الإسلامية فإن ما جاء في المذكرة الإطارية الأخيرة هذه يعتبر أول تصريح وإقرار واضح من الإسلاميين بخطأ ما قاموا به في 1989م، والغريب أن كلا من أصحاب المذكرتين كانوا حريصين على تقديم هذا البند في مقدمة طرحهم بما يشير إلى تعزيز فكرة أن أحد الفريقين من هؤلاء وهؤلاء (الإطاريين والألفيين) قد مارس على الآخر نوعاً من القرصنة الفكرية فإذا صدق ادعاء أصحاب المذكرة الأخيرة فإن من أخرجوا مذكرة الألف قد سبقوا أصحاب المذكرة الإطارية هذه (بعد أن وقع نصها أو على الأقل جزء من نصها أو أفكارها) في أيديهم فعمدوا إلى مقابلة بنودها ببنود أخرى مقابلة لها ولكن بمنطلقات إن لم تكن معاكسة فهي على الأقل مختلفة كلياً أو جزئياً عن ما وقفوا عليه في مذكرة الفريق الآخر وهو ما يبرر الإشارة وبحرص إلى مبدأ الاستيلاء على السلطة باعتباره مبرراً بما يضعه منطلقاً للوقوف على التجربة وقد وضعوه تماماً في صدر طرحهم تماماً كما وجدوه في المذكرة التي وقعت في أيديهم. هذا بالطبع إذا ما صدق أصحاب المذكرة الإطارية الجديدة هؤلاء في زعمهم وبالمقايل قد يكون الأمر على وجهة أخرى بحيث يكون الفريق الآخر قد تعرض لتجنٍ من هؤلاء (الاطاريين) الذين عمدوا إلى تضليل الرأي العام بطرح جديد لأغراض ما ربما يكون من ضمنها نسف المذكرة الأولى من خلال فتح الباب واسعاً أمام الرأي العام وأمام جمهور الإسلاميين تحديداً للخروج برأي سلبي حول جدوى الاتجاه لالتماس التغيير عبر أسلوب المذكرات وذلك من خلال نشر أكثر من مذكرة وهذا الأمر إن صح فإن الساحة الإسلامية موعودة بعدد من المذكرات الجديدة التي قد يكون هدفها تشتيت الانتباه وفك الالتفاف حول المذكرة الأولى، هذا بالطبع إذا ما صدق الظن بمحاولة بعضهم وأد المذكرة الأولى التي وجدت صدىً واسعاً وكبيراً وسط الشارع العام وشارع الإسلاميين على وجه خاص، ولكن وبعيداً عن هذه الظنون من هنا وهناك فقد جاءت المذكرة الإطارية أواخر الأسبوع الماضي ببنود جديدة وخطيرة تميزها بجرأتها ووضوحها عن مذكرة (الألف) لعل أهمها على الإطلاق الدعوة الصريحة لمناهضة النظام الحاكم عبر وجهة طريفة في اختيارها لشكلها حيث نادت بفك الارتباط بين النظام الحاكم والحركة الإسلامية وهو ما يعني انتزاع النظام الحاكم من حاضنته التنظيمية والفكرية وبالتالي إفقاده المرتكز الفكري الذي يسبغ عليه شرعية عمله ووجوده ناشطا في الساحة السياسية وخادما للشعب السوداني والأمة الإسلامية عبر طرحه وأفكاره، وتقول المذكرة هنا بأهمية الاتجاه للآلية الديمقراطية في الممارسة للوصول للسلطة، وقد أسست المذكرة وأصحابها لهذا الموقف من خلال الإقرار الذي خرج في شكل نداء لمن وصفتهم المذكرة ب (الصالحين) كي لا يسايروا النظام الحالي باعتباره أميناً على المشروع الإسلامي حتى لا يكون ذلك ضرباً من ضروب مخادعة النفس والتهرب من مواجهة الواقع فهذا النظام (كما جاء بالمذكرة) نظام لا يحسن الاستماع للنصح ولا يقبل المراجعة وبالتالي فهو نظام لا يمكن اعتباره نظاماً معبراً عن خط الحركة الإسلامية التي انشطرت وكما تقرر المذكرة نتيجة لصراع حول السلطة الشيء أدى في نهايته لانعدام الرؤية تماماً أمام المتصارعين والحاكمين، وهذا البند يعتبر أقوى بنود المذكرة على الإطلاق وأكثرها جرأة ووضوحاً إلا أن أصحاب الإطارية هذه يعودون في مذكرتهم (وكما فعل أصحاب مذكرة الألف لتبرئة أنفسهم من تهمة التآمر على النظام عبر وسائل محظورة يمكن أن تجرم طرحهم) ليؤكدوا أنهم لا بنتمون لأي جهة تسعى لاستلام السلطة عبر الجيش بل على النقيض من ذلك فهم يؤكدون خطأ هذا الطريق كما أنهم يقررون أنهم لا يحاكون من خلال طرحهم الربيع العربي إلا أنهم يعودون ليؤكدوا أن ذلك لا يعني البتة (التعامي) عما يدور في المنطقة العربية عبر الادعاء الكاذب بأن أسباب ثورات الربيع العربي من بطالة واستبداد وفساد غير موجودة في الواقع السوداني،وهذا شيء جديد جاءت به هذه المذكرة لم تتطرق إليه مذكرة الألف وهو ما يعني الإقرار بأن المذكرة لم تستبعد في طرحها اللجوء لذات الوسائل الثورية العربية للتغيير في السودان بالرغم من محاولتها نفي ذلك، وأخيراً تتفق المذكرة الإطارية مع مذكرة الألف في ضرورة إحياء الحركة الإسلامية بتعبير مثالي يقول: (إننا ننادي من خلال هذه الوثيقة بإخراج الحركة الإسلامية وإحيائها لتوفير البيئة الملائمة للمراجعة الأمينة والنقاش الحر تمهيداً لاستكمال البناء بعيداً عن الدولة ومؤسساتها وحزبها الحاكم) وفي هذا الوصف الأخير للدولة و(حزبها الحاكم) ما يؤكد على رأي المذكرة وأصحابها في الوضع الحكومي الراهن باعتباره وضعاً بعيداً عن أشواق الإسلاميين كما أن وصف المؤتمر الوطني بالحزب الحاكم فيه إنكار أكبر لارتباطه العضوي بالحركة الإسلامية. وأخيراً وإن صحت أقوال أصحاب المذكرة الإطارية الأخيرة بشأن كون مذكرتهم هي المعبر الحقيقي عن الأفكار الإصلاحية للقاعدة الإسلامية أو لم تصح وإن كان ما جاء في مذكرة الألف الأولى هو بالفعل ما اجتمع عليه نفر من الإسلاميين ليكتبوا مسودة إصلاحية لواقع غير مرضٍ لجماهير الحركة الإسلامية، أو إذا ما كان كل ما حدث حتى الآن لا يعدو سوى بالون اختبار أطلقته الحكومة والمؤتمر الوطني إما لدراسة حجم الأثر المتوقع أو لسحب البساط من بعض من تظنهم يخططون لشيء مماثل، فإن نتاج كل ذلك على أي وجه كان سيعمل بكل تأكيد على تحريك شيء ما على الساحة السياسية عامة وساحة الإسلاميين على وجه خاص، هل هي الحمى؟ خالد حسن لقمان ellogman@ yahoo.com