أشرنا مرّة إلى أن حسام وزوجته يذهبان إلى الجيران في الشقة المقابلة حيث يقيمان في الإمارت ويتركان الأولاد يلعبون في الصالون تحت أنظار الخالة المقيمة في أمريكا عبر عدسة كاميرا صغيرة موصولة بالكمبيوتر الموصول بدوره بكمبيوتر الخالة في الولاياتالمتحدة من خلال الإنترنت الذي كان حينها ترفاً من قبيل جديد. تحوّل الإنترنت الآن إلى ضرورة لا غنى عنها، على الأقلّ في البلاد التي لا تعاني مشاكل اقتصادية طاحنة، والأرجح أنه حتى في البلاد المنهكة اقتصادياً ضرورة ولكن يُضطر الناس إلى الاستغناء عنها انشغالاً بأولويّات أخرى في درجة الطعام والشراب علي سلّم ضرورات الحياة. الضرورة في البلاد الموجوعة اقتصادياً هي ما يعين على ضمان لقمة العيش في حدودها المتواضعة، وهي في دول الرفاهة ما يضمن استمرار العيش المترف، ولكن العولمة ضيّقت الهوّة بين تعريفي الضرورة على طرفي العالم المتناقضين وكان سبيلها إلى ذلك التضييق ماكراً إلى حدّ بعيد، فليس ممكناً أن تقنع أحدهم بأن الهاتف المحمول أهم من الخبز ولكن من السهل حمله على امتلاك هاتف محمول إذا علم أن ذلك الاختراع من شأنه أن يعينه بصورة أفضل على كسب العيش. من مكر العولمة أنها تلقي بالسلعة الهامشية على استحياء أول الأمر ثم تروّج لها بالمغريات التي تداعب مشاعر الناس وأحلامهم الطفولية حتى تستقر في قلب حياتهم فيظنون أنه لا مناص منها، خاصة إذا أصرّ البعض على أنها جوهرية، فلن يعود بوُسع الآخرين من المعارضين سوى المجاراة حتى إذا لم يكونوا مقتنعين بضرورة اقتناء السلعة العولمية الجديدة. ماذا يضير الناس لو اتفقوا جميعاً على الاستغناء عن الموبايل؟ هل تكمن العاقبة في بطء التواصل بين الناس وبطء إيقاع الحياة من ثم؟ ولكن ما الذي جنيناه من السرعة بشكل جوهري؟ تلك أسئلة مشروعة عندما يتعلّق الأمر بالتفكير في جوهر الحياة، فحتى اللحظة لم تقدِّم التقنية الحديثة فتحاً غير مسبوق كاختراع إكسير الحياة أو على الأقل القفز بعمر الإنسان إلى مستويات فائقة، كما أن العلماء لا يزالون يراوحون مكانهم فيما يتعلق بسرّ الوجود وذلك بالخروج من اكتشاف كوكب جديد إلى الحديث عن نجم جديد فمجرّة جديدة تلوح في نقطة ما وراء عدسات تلسكوب عظيم يطلّ على جزء من الكون الذي لا يزال لانهائياً. غير أن العولمة لا تُعنى بكل ذلك، فهي لا تَعِدُ بما لا تملك من أسرار الكون، ولكنها تفي بما لم تَعِدْ به من متع الحياة، فنحن نفتح أعيننا كل صباح على اختراع جديد لم يبشِّرنا به أحد بالضرورة، ثم ننتظر صباحات معدودة حتى يصبح ذلك الاختراع ضرورة. ولكن ما العلاقة بين التقنية والعولمة؟ لماذا نحمِّل العولمة أوزار التقنية..إذا صحّ أن منتجات الأخيرة تستحق ذلك الوصف؟. في الواقع العولمة تتحمل تبعة عظيمة إن خيراً وإن شراً في تشكيل واقعنا اليوم، فالتقنية هي التي ظلت تقذف بالمنتجات التي كانت أفكاراً خيالية إلى الواقع في نطاق كان محدوداً إلى حد بعيد، حتى إذا جاءت العولمة حفزت التقنية على مزيد من شراهة الابتداع وذلك بتكفُّلها – العولمة – بترويج المنتجات التقنية في أسواق بلا حدود. وعليه فإنه من الدقة أن ننسب خيرات أسواق اليوم (وشرورها؟) إلى العولمة قبل التقنية الحديثة. من نكد العولمة علينا أن سؤالنا معها أوشك أن ينحصر في كيفية الملاحقة وليس إمكانية الرفض أو القبول، ومن نكدها كذلك أن تهمة الاستهلاك التي ظللنا نُرمى بها قد تضاعفت مراراً مع شراهة ابتداع التقنية التي استثارتها العولمة على نحو ما رأينا. سألت نور الدين الذي بعث زوجته وأبناءه إلى كندا في مخطط للهجرة وبقي حيث هو في الخليج حفاظاً على فرصة عمل نادرة:" ألا تسأم من البقاء وحدك؟"، أجابني:" أنا أعيش معهم في كندا"، وقبل أن أستوضح عمّا وراء صيغة المبالغة من مقصد دقيق أردف نور:" فعلاً أنا معهم يومياً بصورة متواصلة، فما إن أعود من العمل حتى أفتح الكمبيوتر وأشغِّل "الإسكايب" لأجدهم ينتظرونني هناك بجهازهم و "إسكايبهم" مفتوحين، ونظل نتواصل صوتاً وصورة حتى يخلد كل منا إلى فراشه". في تفاصيل القصة أعلاه ما يؤكد فعلاً أن عائلة نور الدين تكاد تعيش في مكان واحد، فكاميرا الكمبيوتر المثبتة على كلا الجهازين تكشف المساحة التي يتجوّل فيها كل طرف بوضوح إن في غرفة نوم نور الدين في الإمارات حيث يضع جهازه أو في صالون عائلته في كندا حيث يثبتون وصلاتهم، وهكذا فإن من يدخل من الأبناء إلى البيت في كندا لا يسلِّم فقط على الجالسين فيه من أفراد العائلة وإنما يمدّ يده محيّياً رب العائلة على الطرف الآخر من العالم. "لم يعد أي شيء يمكن أن نقوله عندما نلتقي سويّاً في الإمارات أو كندا، كل تفاصيل حياتنا اليومية تقريباً نعيشها لحظة بلحظة"، يردف نور الدين الذي أعلم عشقه الشديد لمنتجات العولمة خصوصاً الرقمي منها، غير أنني لم أعرف هذه المرة إذا كان الرجل يذمّ معشوقته أم يمدحها وقد ذهبت ببهجة اللقاءات الحميمة بعد أن أغرته بلذة اللقاءات الأثيرية وأتاحت له اكتفاءً افتراضياً مراوغاً من المشاعر. عمرو منير دهب هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته