لا تفوت السلطة التأكيد في كل مرة على قدرة المعدن الأصفر على تعويض الخسائر الناجمة عن خروج الذهب الأسود أو النفط من الميزانية – تاكيدا لذلك بتنا نسمع بين الفينة والاخرى عن مشروع هنا ومنشأة هناك وعقد وشراكات لتقنين استخراج الذهب وتمكين الدولة من السيطرة على عوائده. في المقابل تضج الساحة بأخبار التنقيب الأهلي وأحلام الثراء التي لم تعد تداعب السودانيين فقط والذين هم أولى"بلحم ثورهم" بل دخل الاجانب على الخط - فشدوا الرحال الى مواقع التعدين "الكيري" في الشمالية وكردفان والبحر الاحمر. انها اسطورة الذهب كما ذكرنا هنا ذات عمود – انها الارض حين تصبح مسرحا لصراع الاحلام والجهود والتجارة – فيختلط الحابل بالنابل ويبدا مجتمع المنقبين في تشكيل نفسه تنظيما وجريمة – يطول المكوث بكثيرين - فما كان طارئا او مجرد رحلة استكشافية تحول الى وضع دائم عملا بمبدا ان احدا من المنقبين لم يخلف وراء ظهره شيئا يخشى عليه. تفاجأت الولايات بالذهب – زادت شهيتها للتحصيل والجبايات – سعدت ايما سعادة بحراك اسواقها – لكن ماذا تراها تفعل بالجريمة المصاحبة – المنقبون شرسون وهذا طبيعي لانهم يتقاسمون كيكة مجهولة وينشطون في اطار جماعات مناطقية وقبلية – يجهدون يعرقون وفائض قيمة جهدهم يذهب للوسطاء والتجار والصاغة. ما يجري في مواقع التنقيب في السودان ليس بدعة – فالذهب واحد من اهم عناصر الجذب في العمران البشري ولا تزال ادغال الامازون ومستنقعاته تجذب الحالمين بالثراء في اكبر تحد من نوعه للسلطات الامنية في البرازيل – يذهب الناس الى الذهب ويعمرون في محيطه كم مدينة ظهرت بفضل معاول المنقبين "الكيري" جوهانسبيرغ سان فرانسيسكو مثلا. يصعب تصور سيناريو شبيه في السودان – هل نحن امام فقاعة لم تلبس ان تنقشع ويعود كل حي الى حال سبيله – حتى من طال بهم المكوث يعيشون على الكفاف في ظروف اقل ما توصف به انها بائسة جدا؟. ما جرني للذهب وعوالمه المظلمة والبراقة جريمة مقتل الصائغ الهلالي في عطبرة – قتل الرجل دون ذنب سوى انه احد تجليات حمى الذهب وعلاقاتها التجارية والانسانية المضطربة – عنده وغيره من الصاغة تنتهي جهود المنقبين لتبدا لعبة اخرى اكبر واكثر تعقيدا لا يعلم الناس اسرارها والاحقاد المتراكمة حولها – احزنني مقتل الصائغ الشاب على هذا النحو البشع ونحن في انتظار اكتمال التحقيقات. سيبقى الوضع على ما هو عليه فما يجذب المنقبين البسطاء ربما لا يكون مجديا لشركات التنقيب العملاقة فالامر يتوقف على حجم الاحتياطات واماكن توزيعها وغير ذلك من العمليات الفنية – حتى وان حطت شركات التنقيب في نهر النيل والفولة اليوم فسيسارع المنقبون الى مناطق جديدة حتى وان اخترعوها من العدم – ثمة شح في الاحلام في هذا البلد وذلك بسبب انسداد الافاق امام الشباب – البطالة في اوجها – والخلل في علاقات السلطة والشارع لا توفر ذرة اطمئنان في قلوب غضة اعياها الترقب وكثرة الوعود.