استئت بشدة لفشل الانتخابات الأخيرة لاتحاد طلاب جامعة الخرطوم (كوسو العظيم)، هذا الاتحاد الذى عاصرناه فى الجامعة فى ستينات القرن العشرين وسمعنا عنه الكثير من إنجازات منذ الاستقلال ليس فى السياسة وحسب بل كان بفتح الفرص الواسعة ليرتبط طلاب الجامعة بمختلف تخصصاتهم العلمية وتياراتهم الفكرية والاجتماعية والسياسية والفنية والرياضية مع المجتمع والعالم يقدمون الخدمات للمجتمعات السودانية النائية مثل جمعية تطوير الريف ولكل التنظيمات الفكرية لتستفيد من منبره بل إمكانياته المالية لترتبط بالمجتمعات فى العاصمة والأقاليم وللفن والرياضة والفلسفة وهلمجرا.. كنا نسمع عن كيف كانت تجرى انتخابات الاتحاد منذ الخمسينيات بطريقة متحضرة وشفافة بدأت بالنظام الحر المباشر عقب الاستقلال وتحولت الى نظام التمثيل النسبي المقيد بعد ثورة أكتوبر 1964 ثم العودة الى نظام الحر المباشر عقب أحداث مارس 1971 الشهيرة (أي عقب الاستفتاء الشهير عام 1972) وذلك بسبب بروز ظاهرة الصراع والمكايدات الحزبية الضيقة الى درجة العنف بالسلاح بدلا عن الحوار السلمي والنشاط السياسي والنقاش الفكري المنتج.(كان للنظام المايوي دور سالب فى ذلك). لقد كانت الانتخابات فى الماضي قبل أحداث 1968 المأساوية والشهيرة برقصة العجكو فى قاعة الامتحانات جامعة الخرطوم تجرى بسلاسة وشفافية وثقة متبادلة حتى بين أكثر التنظيمات صراعا (الاتجاه الإسلامي والجبهة الديمقراطية) لدرجة الثقة فى الحسابات المعقدة لنتيجة الانتخاب بالتمثيل النسبي المقيد والتى كانت تحسب بالمسطرة الشهيرة لطلاب الهندسة ولا توجد حواسيب الكترونية كاليوم فقد حكى لي المرحوم المهندس حسن محمد علي طيب الله ثراه وكان قياديا فى الاتجاه الإسلامى بالجامعة أنه والقيادي بالجبهة الديمقراطية الطالب حينها خالد المبارك يلتقيان سويا بعد التصويت ليحسب له حسن عدد المقاعد التى يستحقها كل تنظيم باعتبار أن حسن كان طالبا نابها فى علوم الحساب فلا يختلف معه خالد المبارك، ويقبل بالنتيجة حتى لو كانت فى صالح الإخوان للثقة التى كانت متوفرة والاحترام المتبادل بينهما وبين الجميع، فقد ذكر لي حسن أن خالداً كان طالباً قيادياً محترماً من الجميع..كان طلاب الجامعة كبارا فى تفكيرهم وتصرفاتهم حتى دخل على الجامعات فيروس الصراع الحزبي الضيق البغيض لأسباب كثيرة لا يسمح المجال لتوضيحها وربما نتطرق إليها لاحقا للاستفادة من عبرتها وتجاوزها حاضرا ومستقبلا ولكن باختصار شديد يمكن القول إن الصراع الفكري والسياسي بين المعسكر الغربي والشرقي (الحرب الباردة) وما سمي بالأنظمة الثورية والرجعية العربية إضافة لبؤس الممارسة السياسية السودانية والتطرف خاصة بين الإخوان والشيوعيين آنذاك أدى لتنشئة فكرية وسياسية متخلفة ليس فيها تسامح أو حوار مثمر. كتبت كثيرا من قبل وقلت إن اعتماد التمثيل النسبي المطلق (أي المئوي) فى انتخابات اتحادات الطلاب ربما يعطي فرصة لقدر أكبر من الشفافية والصدقية والنزاهة فى الانتخابات والممارسة السياسية ولكن يجب أن يسبقها حوار واسع وقدر كبير من التسامح والتنشئة السياسية وأذكر أن جامعة الأزهري قد دعتنا قبل أعوام لحضور توافق سياسي بين التنظيمات السياسية الطالبية من أجل انتخابات متطورة واتحادات أفضل فابتهجنا كثيرا مما جعلني أقترح فكرة الانتخابات بنظام التمثيل النسبي المطلق (أي المئوي) الذى يعكس حجم كل تنظيم بشفافية كاملة دون تلاعب ومن ثم يتم تكوين اللجان التنفيذية للاتحادات بل الاتحاد العام للطلاب السودانيين وفق الحجم الحقيقي لكل. أرجو أن يفكر الجميع فى ذلك على الأقل لتكون أنبوبة اختبار لكل القوى السياسية على المستوى القومي ووسيلة لتوافق وطني وتنشئة سياسية سليمة للطلاب جيل المستقبل وليس جيلنا هذا الذى كلفنا الكثير من المآسي وأوصلنا الى ما نحن فيه.