هنالك نظرية في علم النفس مضمونها أن الإنسان عندما يتذكرالماضي يبدو له وكأنه مفروش بالورود لأن العقل البشري بطبعه يتخلص من الذكريات السالبة وتبقي فقط الموجبة منها وهذا ما قد يفسر تمجيد كل فرد أيام صباه والبكاء على أطلال الشباب والقوة والفتوة وكثيراً ما تجتر ذاكرة الصبا الصورة البهية لمواسم الخريف وخضرتها النضرة أكثر مما تذكر مواسم الصيف والقحط والغبار في نفس الفترة !! ولا استثناء من ذلك حتى الميسورين الذين يرفلون في نعم العصر الحالي من مكيفات الفريون في المنزل والمكتب والعربات وينعمون بخدمات الاتصالات والقنواة الفضائية ورغم ذلك يلعن بعضهم سلسبيل الحاضر!! إستحضرت هذه المقدمة وفي بالي العديد من المقالات التي ظلت تمجد تعليم أيام زماااان وتكاد تلغي كلّ الحاضر بمستحدثاته ومستجداته وبالتالي متطلباته الاجتماعية والثقافية محلياً وعالمياً وكأن الحال من المحال أن ينصلح مالم يتم صبّ جيل اليوم في قوالب من الماضي !! صحيح أنه لا أحد يستطيع أن يخطو إلي الأمام مالم يهتد بالموجب من إرث الماضي في أي إصلاح ولكن كل زمان بخصوصياته المستحدثة باستمرار وخاصة بالنسبة للعملية التعليمية فقد أصبحت صناعة متطورة دوماً وخاضعة تماماً للعامل المادي بمعنى أنها تحتاج إلى إمكانيات معتبرة لتهيئة البيئة المدرسية من مناهج تلبي الميول الفردية وتتجانس مع قيم المجتمع وتنسجم مع الثقافات السودانية ذات الأطياف والجذورالمختلفة مع توفير الوسائل التعليمية الحديثة والمواكبة لمتطلبات سوق العمل المحلي والعالمي وتقليل الحشو الأكاديمي الفجّ الذي غالباً ما يأتي خصماً على الترويض المطلوب للمقدرات الإبداعية الكامنة في الفرد. وعموماً نري أن بناء المنهج ومتابعته الإصلاحية ينبغي أن تكون عملية مهنية بحتة يمكن أن يقوم بها المختصون خير قيام متي ما عملوا بعيداً عن ضغوط الأجندة السياسية من كلا الطرفين الحاكم والمعارض لكي لا تصبح المناهج الدراسية كالدستور السوداني تفصّله كل حكومة على مقاسها الآيديولجي !! وأهم من ذلك كله إعداد المعلم الكفؤ وتوفيرالحد الأدنى من العيش الكريم له بحسبه الركيزة الأساسية للعملية التعليمية برمتها فقد ذكر الأستاذ محمد وردي عليه رحمة الله في لقاء تلفزيوني أن راتبه الشهري بعيد الاستقلال كان 18 جنيها فتزوج ب 12 جنيه منها !! ما يعطي مبرراً للحنين على الماضي فيما يخص تقييم المعلم وأما اليوم فنجد أن الفجوة كبيرة جداً بين المطلوب لكفاف المعلم وبين ما يتقاضاه من راتب وهي تعادل نفس الفجوة والفجيعة الحاصلة في العملية التعليمية من تدهور بائن في كل محاورها وعليه لا خير يرجى من إصلاح المباني والأثاثات والأهداف الرسالية للمناهج ما لم ينصلح في البدء الحال المادي للمعلم ومن بعده يمكن تمهينه بكل سهولة ويسر فالمعلم إذا وجد ما يعينه على ضروريات الحياة اليومية يمكنه أن يصنع من فسيخ المناهج شربات تسكر الحكّام والمحكومين وأقوى دليل على ذلك ما تحرزه المدارس الخاصة من نتائج باهرة قياساً بالمدارس الحكومية !! وأما في ظل الأوضاع الحالية فمهما تمّ تجويد المناهج من قبل مختصين حاذقين فإن المعلم المحبط حتماً سوف يحيلها من شربات إلى فسيخ مسيخ !! لأن حاله ببساطة كحال الجندي المحمّل بأحدث الأسلحة الفتّاكة ولكنه محطم الروح المعنوية فأنى يرجي منه تحقيق نصر على عدوه !!؟ لذلك أصبحت مهنة التدريس مهنة طاردة إلا في بيئة المدارس الخاصة والتي تحفظ بعضاً من ماء الوجه للمعلم بعد رهق شديد يهدرفيه طاقة ذهنية وعضلية باهظة من الفجر إلي غسق الليل متنقلاً بين مدرسة وأخرى ومن منزل إلى آخر لمتابعة الدروس الخصوصية والتي تمثل الدخل الحقيقي والمضني جدا جسديا ونفسياً ولكن للظروف أحكام!! المهم في الأمر لابد من التسليم بأن التعليم قد دخل السوق مثله مثل الصحة والأمن ممثلاً في شركات التأمين الخاصة وكذلك العدل ممثلاً في المحاماة كظاهرة عالمية لا سبيل لمقاومتها وبنفس القدر أصبح التعليم صناعة متطورة ورائجة دخلت سوق العمل بكل قوة لتملأ الثغرة الخدمية الكبيرة الناتجة عن التثاؤب الرسمي حيث صارت المدارس الخاصة متقدمة أكاديميا واجتماعيا على المدارس الحكومية وهي آية مقلوبة مقارنة بالماضي حيث كانت المدارس الخاصة تسمى بالمدارس الشعبية أوالأهلية وكانت تستوعب فقط الحصالة الأكاديمية من الطلاب الذين لم تسعفهم مستوياتهم الأكاديمية للمنافسة في المدارس الحكومية !! وأما الآن فقد صرن بعض الأمهات يتباهين بكل (برجزة وفنطزة !!) بأن إبناءهن في المدرسة الفلانية الخاصة وفي الحي العلاني الراقي مما اضطر بعض المدارس الخاصة للإيجار الغالي أو التشييد في الأحياء الراقية تلبية لتلك المتطلبات الطبقية الحديثة !! وقد احتلت المدارس الخاصة قائمة أوائل الشهادة السودانية ليس لأن بها طلاب أذكياء دون الآخرين ولكن عامل الإمكانيات يلعب دوره الأساسي والحاسم وخاصة الاستقرار المادي النسبي للمعلمين وكانت المدارس الحكومية الإقليمية تشاطر العاصمة في التفوق الأكاديمي قبل الخصخصة التعليمية منذ العقدين الأخيرين !! فهجرت جلّ صفوة الأسر السودانية الفاعلة ولاياتها إلي العاصمة بحجة وفرة التعليم الجيد لتضمن مستقبل آمن لأبنائها كما يرحل الرعاة من الأرض البور البلقع إلي الخصب من المرتع ما جعل الأراضي السكنية في العاصمة السودانية أغلي من بعض العواصمالغربية !! وعليه لا مناص من الخروج من مأزق التعليم في البلاد إلا بالصرف عليه صرف من لا يخشى الفقر لأن التعليم هو نفسه عين الاستثمار في التنمية البشرية والوطنية والقومية في بلاد لا زالت تعاني وتئن من آفة وأمراض الإنتماءات الضيقة !! إذن الإصلاح التعليمي ليس مجرد نافلة خدمية تقدمها الحكومة على مضض من فضلة ميزانياتها وإنما ينبغي أن تكون إستراتيجية مطلقة تنموياً وإقتصادياً وإجتماعياً وسياسياً لضمان مجتمع معافي من المثالب البالية. ومكابر من ينكر أن الإنقاذ قد توسعت في التعليم الاساسي والعالي بصورة لا تخطئها العين السليمة رغم أن ذلك جاء خصماً على التجويد الأكاديمي إلا أن القرى الصغيرة صارت عامرة بالمدارس الثانوية للبنين والبنات وأصبح لكل ولاية جامعتها وكليات ومعاهد عليا عامة وخاصة ما أدى إلى مضاعفة أعداد الخريجين والإنتشار الكبير للوعي الذي بالطبع سوف يكون مقبرة لكل أنواع التخلف الطائفي والجهوي والعرقي ونفس هذه المقبرة حتماً سوف تتوسطها قبة كبيرة للنزعة الشمولية التي ظلت تعاني منها البلاد منذ استقلالها !! وأخيراً لست مسرفاً في التفاؤلً بقرب أفق أخضر للتعليم في بلادي على الأقل في المستقبل القريب لأن جل الطبقات الاجتماعية ذات الصوت الأعلى في المجتمع من الناحية المادية والمهنية والوعي في كلا المحورين الشعبي والرسمي المتوالي منها والمعارض حيث أمّنت جلّ هذه الطبقة مصير أبنائها بإلحاقهم ضمن حصون المدارس الخاصة وستظل كذلك وبالتالي فإن ثوريتها على آلام التعليم قد تظل متثائبة أو على الأقل سوف تكون في ذيل قوائم إهتماماتها بدليل أن الفارق الزمني بين مؤتمر التعليم الأخير وشقيقه الأكبرعقدين كاملين جرت فيهما مياه طوفان غزيرة على أرواح جيلين كاملين في التعليم لم تكن فيه بواكي تلك الفئة على ملف التعليم كنحيبها المرّ على ما أصاب ملفات السلطة والثروة والديمقراطية والتهميش!! في وقت ظلت فيه المحليات الفقيرة تتلكأ مضطرة لكفالة المدارس الحكومية المكتظة بأبناء الطبقات الشعبية ذات الكم الأكبر والصوت المكبوت والتي ظلت ترفد الشارع السوداني خلال العقدين المنصرمين بأكوام من الفواقد التربوية والاجتماعية والسياسية هؤلاء الذين سوف يأتون على الأخضر واليابس من ما قد تبقى من الوجدان الوطني ولن يسعف حينها البلاد ما تجود به المدارس الخاصة من حفنة أجيال مثالية من ذوي الحظوظ الخاصة في التعليم والصحة والتوظيف!! ما قد يجعل ساقية المعاناة السودانية لسّة مدورة !!