(1) (في بداية الأسبوع الأخير من يناير) تفاجأ مصلو مسجد الحي الذي نقطنه-بعد صلاة العشاء- بطفلة حديثة الولادة موضوعة بفناء المسجد. وبدورهم التقطوها وسلموها الشرطة، والتي بدورها ستأخذها لإحدى دور الرعاية، لتبدأ هذه الطفلة فصولاً من المعاناة طوال سنيِّ عمرها – إن عاشت- سنسرد جزءاً من فصولها، ونحاول الإلمام بحيثيات الظاهرة. بداية نحن أمام موءودة من نوع جديد قديم، كالتي تحدث عنها القرآن، فالموءودة ليست هي الأنثى التي تدفن خشية إملاق أو من إملاق فحسب (أي أثناء الفقر وخشية الفقر)، فالمعني لغوياً واصطلاحاً واسع يشمل كل حالة قتل ووأد خشية فقرٍ أو عار. والقرآن صالح لكل زمان ومكان، لا ينص على شيئ ينتهي وقت نزوله!. (2) ظاهرة الأطفال فاقدي الرعاية الوالدية (غير الشرعيين الذين تتبناهم دور الرعاية) عموماً في تزايد. ولا تحتاج إلى دراسات لإثباتها، فالدراسات عندنا تتأخر جداً وتواجهها صعوبات كبيرة، فدار (المايقوما) تستقبل أكثر من 40 حالة في شهر ديسمبر بزيادة عن المعدل الطبيعي في بقية الشهور-سنفصل السبب لاحقاً- ما يعني أن المتوسط قد يكون بين ال(20-30)، أي أكثر من 300 سنوياً. حسب د. الجميعابي في ندوة تقويم تجربة الأسر البديلة في أكتوبر2009، وهي بهذا النسق، في ظل غياب سياسات وجهود حكومية ومدنية منظمة وفاعلة لمعالجة جذور الأسباب، وليس القشور، ولمجابهة الوضع الراهن، آيلة للزيادة بأرقام مفجعة. وتلك الأرقام لا تعبر عن حقيقة حجمها، فكثير من أولئك الأطفال يموتون قبل العثور عليهم؛ نتيجة رميهم في أمكنة مهجورة وقاسية الطبيعة وتدهور صحتهم، وكثير يُقتلون عنية؛ وقد سمعنا ونسمع الكثير عن قصص رميهم في الحمامات والسايفونات ومحطات تجميع القمامة. وللظاهرة وجه آخر يؤكد تناميها، فقد أعلنت وزارة الصحة في صحف الخرطوم من ذات الأسبوع زيادة عدد المصابين المسجلين بفايروس نقص المناعة المكتسب(AIDS) إلى 17. 000 في السودان. والرقم يزيد أضعافا إذا ما قدرنا الحالات غير المسجلة وغير المكتشفة -وقد تحدث معلقاً على ذلك الأستاذ عبد المحمود الكرنكي بتفصيل وتحليل جميل ووافٍ في صحيفة الإنتباهة من ذات الأسبوع- وبالتأكيد الرابط بين زيادة الجنس المحرم، وغير الآمن، الناتج عنه مرض الإيدز، وبين زيادة الأطفال مجهولي الأبوين، أو فاقدي الرعاية الوالدية، أو اللقطاء سمِّهم ما شئت، الرابط معلوم. (3) ويرجعُ رجال ونساء الدين سبب الظاهرة إلى ارتفاع معدلات الإنحلال الخُلُقي والديني، وضعف الرقابة الأسرية. ويفسرها اقتصاديون واجتماعيون كتمرد طبيعي على القيم في ظل الضائقة الاقتصادية التي تعرقل تلبية الفطرة الجنسية بالزواج الشرعي، في ظل انفتاح إعلامي ومجتمعي. والفريقان على اختلافهم في تفسير الظاهرة، نعتب عليهم أنهم لا يقدمون لنا مقترحات معالجات فعَّالة وقابلة للتنفيذ وبعيدة عن النقد غير البناء والسطحية. والدولة (ممثلة في وزارة الرعاية والضمان الاجتماعي) يبدو أنها مرتاحة لتلك التحليلات وتدعمها، لأنها تُبرئ ذمتها وتلقي اللائمة على المجتمع!. في حين أن من الأسباب الجوهرية لكل ظاهرة عدم وجود سياسات وخطط وبرامج آنية واستراتيجية لمعالجة جذور المشكلة وآثارها الراهنة. وذاك من اختصاص الدولة التي لها حق التشريع والتنفيذ. (4) الواقع يدل على أن الدولة ممثلة الأجهزة التشريعية والوزارة لا تملك الجدية والإرادة الكافيتين في التعامل مع الملف، ولا تبذل الجهد الكافي. فمنظمات المجتمع المدني العاملة في مجال الطفولة والصحة، ودور الرعاية، تشتكي كثيراً من تدني التمويل المتوفر لدور رعاية الأطفال "فاقدي الرعاية الوالدية"، في ظل ارتفاع تكلفة رعاية الطفل الواحد من غذاء وصحة وخدمات. مما يشكل خطرا صحيا عليهم، خصوصاً حديثي الالتقاط الذين يأتون إلى الدار في حالٍ مذرية. وربما نهشت الكلاب بعضاً منه في المكان الذي رمي فيه!. وذاك يفسر معدل الوفاة داخل الدار الذي وصل في العام 2009 إلى (9) أطفال شهرياً (حسب د. منى عبدالغني من وزارة الرعاية الإجتماعية آنذاك في ذات الندوة السابقة). كما تتحدث المنظمات عن تأخر إجراءات إدخال الأطفال الملتقطين إلى الدار حال العثور عليهم، مما يجلعهم ينتظرون في وضع صحي مقلق (لا بد من تدوين الحالة بفتح تحقيق في سجلات الشرطة، وهو شيء محمود، ولكن يؤخر إيداعها الدار خصوصاً وأن الطفل يكون في حال غير صحية، ويمكن معالجة الإشكال بتوفير وحدة مخصصة داخل الدار تقوم بالعملية). (5) وعن تعليم هذه الفئة يحق لنا أن نسأل؛ فمثل هؤلاء سيحيون حياة مليئة بالرفض والإزدراء من المجتمع، وستواجههم عقبات قانونية عدة، وسيجدون صعوبة في اكتساب حقوقهم الطبيعية من إثبات نسب وزواج وورثة وغيره، وأملهم الأكبر ونتاجتهم في التعليم، سلاح هذا الزمان الذي لا يُهزم صاحبه ويضمن له العيش الكريم. لم يتسنَّ لي أن أعلم إن كان أولئك الأطفال يحصلون على تعليم أم لا؟ وهل تُدفع تكاليف تعليمهم إلى وقت التخرج من الجامعة؟. أتمنى أن تكون الأخبار جيدة في هذه الناحية!. ثمة مشاكل تشريعية وقانونية تواجه هؤلاء الأطفال أيضاً، فالقوانين والتشريعات المحلية لا تخدمهم على النحو المطلوب. من حيث النَسَب والتبني وإلزامية التعليم والعمل والحقوق الإجتماعية. فالرضيعة التي وجدها مصلو مسجدنا ستواجه مشاكل في النَسَبْ على الأوراق، وبالتالي مشاكل عندما تذهب المدرسة وعندما تسافر وعندما تنوي فعل أي شيء يتطلب أوراق رسمية. استمتعت إلى أحد الخيِّرين الذين تبنَّوا أحد هؤلاء الأطفال، والذي نصحني وبقية الحضور بحُرقة ألاّ "نتبني طفلاً أبداً" وشرح لنا الصعوبات التي يتعرض لها مراراً، وحكي أنه عندما أراد السفر لمدة قصيرة إلى خارج البلاد بصحبة أبنائه والطفل المتبنى، لم يُسمح له باصطحاب الأخير بحجة أنه ليس أباه على الورق، وليس لديه ورق قانوني يخول له اصطحابه. وأنه يواجه صعوبات كلما أراد فعل شيء يتطلب ورقاً ومستندات لطفل؛ هذا إجراء جيد لحماية الأطفال من عمليات الإختطاف والاستخدام السيء، ولكن بالمقابل لا بد من تشريعات تشجع وتسهل التبني. فيكفي أن التبني يجلب مشاكل مجتمعية للمتبني، ولا داعي أن نضاعفها بالتشريعات المكبِّلة.. وحكي لنا عن المضايقات الإجتماعية من الناس، وعن الإزدراء الذي يلقاه الطفل من قرنائه في الحي بأنه غير شرعي. (6) لما تكبر تلك الطفلة -وأمثالها- لن تستطيع الزواج في الغالب؛ فمجتمعنا لا يقبل الزواج من هؤلاء وإن كانوا شرفاء، مما يحرمهم من حقهم الطبيعي في زواج وأسرة شرعيين؛ وبالتالي ربما يتكرر ذات السيناريو ويحملون سفاحاً فيلدون من يدور نفس الدائرة!، تماماً كما في قصة فيلم العشوائيات (حين ميسرة) للمخرج خالد يوسف !!. ختاماً: يا شباب، هلاَّ وفَّرتم علينا كل هذه المشاكل، وصبرتم لحين أن يحدث الله أمراً؟. وهلاَّ اعتدلتم في احتفالاتكم بما يسمى رأس السنة وعيد الحب (فدُور الرعاية لاحظت زيادة عدد الأطفال الملتقطين في شهر سبتمبر من كل عام، مما يدل على أن الحمل حدث في أواخر ديسمبر وبداية يناير، أو في فبراير إن ولد المولود في سبعة أشهر، وهو الوقت الذي يوافق إحتفالات آلاف من الشبان والفتيان- في أجواء مريبة - بما يسمى برأس السنة في نهاية ديسمبر، وعيد الحب في فبراير)!. أيتها الدولة، هلا وضعتِ سياسات وخططا وتشريعات شاملة وفعالة لمعالجة الإشكال من جذورة، وأخرى لمعالجة الوضع الراهن؟ وهلاَّ فعلتِ ذلك بعزيمة صحيحة لا وهن فيها؟ أيتها الأُسَر، هلاَّ زوَّدتم أبناءكم وبناتكم بمفاهيم ومهارات دينية ودنيوية تعينهم على تجاوز هذه الفترة من حياتهم بسلام، ودون إحداث هكذا مشاكل؟ وهلاَّ صاحبتموهم وراقبتموهم في آن واحد؟ شكراً يا من وضعتم الطفلة بحرم المسجد، ولم تقتلوها، شكراَ لضميركم وإيمانكم اللذين لم يصوغا لكم القتل خشية العار. وشكراَ لكل من يتبنى طفلاً من أولئك.