والرجل يومذاك يصعد على درج المنبر خطوة خطوة، جسده المملوء يترنح يمينا وشمالا كشاحنة أمسكت بساقيها رمال كردفان أو صحراء بيوضة.. أنفاسه تتحشرج وهي تخرج بصعوبة فتجد مكبر الصوت مفتوحا بإهمال فتغادر إلى محيط المسجد من بيوت وطرقات، الرجل يجلس في مقعد المنبر المعلق على الحائط الأمامي على ارتفاع ثلاثة أمتار فوق رؤوس المصلين، يقلب فيهم عينيه كمن يتوعدهم، لازلت أتساءل من الذي أفتى بأن تكون هذه المنابر معلقة هكذا؟ بعض الجهلة من هؤلاء الخطباء تعتريهم حالات من الغفلة والتمدد والغرور وهم يخاطبون خلق الله كل اسبوع والمصلين، يتوهمون أنهم صالحون للادلاء بآرائهم في كل قضية طالما المؤذن ينبه المصلين قبل خطبة الرجل (بأن يصمتوا وينصتوا لأن من لغى لا جمعة له) فيظن بعض الأئمة أن هذا النص يعطيهم حصانة ضد آرائهم المرسلة من فوق منابر الصلاة ويعطيهم ظنا فاسدا أن كل هؤلاء المصلين مسجونون داخل نص الحديث المذكور سابقا فيهيمون على وجوههم ويطلقون لألسنتهم العنان، يتحدثون في كل شيء حتى استراتيجيات الدولة التي تحتاج لأعلى درجات التخصص والعلم والدقة والتحري، تنحنح صاحبنا ونفخ في مكبر الصوت وأصدر صوتا آخر من حلقه وشد إزاره بغير تواضع وأتكأ على عصا موضوعة على جانب المنبر وكانت تلك الأيام قد شهدت خروج الصادق المهدي واشتدت من ثم حرب الحدود واشتعلت المعارك الاعلامية، كان الرجل الخطيب يهاجم قادة المعارضة وكأنه يتحدث عن هامان أو فرعون، ويحدث المصلين عن موائد السكر والشراب في أسمرا ويستدل على فجور قادة المعارضة بأنهم اختاروا أسمرا من دون بلدان الدنيا وهذا وحده يكفى دليلا على فسقهم وكأن جعفر ابن ابي طالب لم يهاجر اليها من مكة قبل مئات السنين! الرجل طاف على قادة المعارضة وسلبهم انتماءهم الوطني ثم سلبهم انتماءهم الديني ونهض يدعو (اللهم اجعل الصادق المهدي والميرغني وابناءهم وأموالهم غنيمة للمسلمين) (أي والله)... وقفت في وسط المسجد والإمام يلعلع بدعاء الجاهلية الفج هذا واخذت حذائي وخرجت ألتمس الصلاة في مسجد آخر وتركت شياطين الفتنة تتراقص تحت منبر الرجل بكل سرور. وجاهل آخر يعتلي المنبر في اعقاب ارتفاع الأسعار ودعوة البعض للخروج إلى الشارع لمناهضتها فيزأر في المصلين أن ويحكم! فإن الله قد كتب لنا هذا العذاب لأننا قد خرجنا من حبل طاعته إلى براح المعصية فسلط علينا السوق وجنونه فارتفعت الأسعار هكذا وأنه ولكي تعود أسعار السلع إلى وضعها الذي كانت عليه فعلينا جميعا العودة إلى تقوى الله وطاعته وهجر المعاصي، هذه الرجل الجهلول لم يكن لديه الوقت الكافي ليشرح للناس كيف أصبحوا بين ليلة وضحاها عصاة ومارقين ومفسدين فتنزلت عليهم ملائكة العذاب بكل هذه العذابات؟ ثم لن يستطيع أحدهم أن يسأله هل تنطبق مثل هذه التهم بالفساد والمعصية عليه هو أيضا؟ وهل تنطبق على من لم يبلغ الحلم ولم تكتب عليه السيئات والمعاصي بعد؟ وعلى الرضع الذين ارتفعت أسعار طعامهم إلى حد الجنون؟ لم اترك الرجل يكمل سقطاته المعرفية والخطابية تلك وخرجت إلى مسجد آخر وللدهشة وجدت الخطيب يتحدث في ذات الموضوع ولكن من زاوية أخرى... تحدث أولا عن ضرورة معالجة طبائع الاستهلاك وضبط معادلة البيع والشراء، وحدث الناس عن ضرورة الانتاج قائلا أن هنالك فئات كثيرة اذا انكفأت تنتج فلن تتذكر حتى من الذى يحكم السودان ولن تشعر بغائلة الدولة وضيقها ثم التفت على الحكومة وقال بأرقام دقيقة عن اسراف الإنفاق الحكومي واضطراب معدلاته وتخبط أولوياته وترهل أجهزة الدولة التنفيذية والتشريعية، تحدث عن اهمال الزراعة والرعي وكانت المرة الأولى التي اجد فيها اماما يحدث الناس باسهاب عن المرض الهولندي في الاقتصاد وهو ما يعرف بالاعتماد على مورد انتاجي واحد للدولة ومع كل ذلك فإن الرجل وقع بخطبته إلى ذات القاع عندما خوف المصلين من خطورة التظاهر والخروج إلى الشارع قائلا وبوثوقية عالية إن الله يغضب على العبد الذى يحتج على غلاء العدس والبصل ولا يخرجه بؤس اخوته في فلسطين أو أفغانستان، لم أخرج لمغادرة المسجد ولكنى لم أستطع منع ابتسامة ساخرة ارتسمت على وجهي وأنا أتذكر عبارة الطيب صالح (من أين اتى هؤلاء الناس؟). وقبل أيام صعد بعض أئمة المساجد ليناقشوا اتفاق الحريات الأربع! وليتهم ناقشوه بعقل أو بأقل درجات العلم والمعرفة، بل وانني على ثقة أن كثيرا منهم لم تتوفر لديه وثيقة الاتفاق ليقرأها ثم يبني عليها هتافاته البائسة تلك، بل صعدوا ليقولوا ويتقولوا في عقيدة وفد التفاوض! وهذه أعلى درجات الخطورة في استغلال منابر المساجد وافراغها من قدسيتها والزج بها في صراع ذي طابع فكري وسياسي محض يحتاج فقط لإبراز الحجة والمنطق لا الإمساك بحبل التكفير والتخوين والطعن في الكفاءات والذمم وتحريض العباد من فوق منابر الأحق بها الدعوة إلى المحبة والسلام والاستقرار والتنمية لا الحرب والغبينة والبغضاء ثم الأسوأ من كل هذا هو التشويش على الدولة نفسها وعلى صناع القرار باستخدام هذه المنابر لتوصيل معلومات غير متحقق منها بل ولعلها مفبركة وموضوعة ومصنوعة بغرض اقناع صناع القرار بوجهة نظرهم ومن ذلك صعود أحد هؤلاء ومناشدته لرئيس الجمهورية بعدم السفر إلى جوبا لأنه يمتلك تفاصيل مهمة عن مؤامرة تحاك خيوطها بجوبا حال وصول البشير اليها، ولو كنت في مكان جهات الاختصاص لاستدعيت هذا الرجل وتحققت من دعاويه تلك فان لم ينجح في تأكيدها وكشف مصادر معلوماته أحلته للقضاء بتهم نشر المعلومات الكاذبة والترويع واثارة الفتنة.. نعم أيها السادة على كثير من أصحاب هذه المنابر التفريق جيدا بين معتقداتهم الخاصة في السياسة والانتماء الحزبي وبين قومية هذه المنابر وعموميتها وانه لا يصح استغلالها لنشر قناعات حزبية أو عنصرية بشكل سافر، ويستطيع هؤلاء الأشخاص أن يصدحوا بما يريدون في فضول أوقاتهم في الندوات والمسيرات والصحف وذلك أن كثيرا من المصلين يكونون على خلاف في الرأي السياسي والفكري لخطيب الجمعة وقد يحدث ما لا تحمد عقباه إذا تمادى هؤلاء الأئمة في استخدام منابر الجمع والصلوات الأخرى للترويج لآرائهم الخاصة في القضايا العامة والهجوم على الآخرين من فوقها واعادة توجيه البسطاء من فوق منابر لها قدسيتها، فان لم يحدث هذا فستتحول ساحات الصلاة والمساجد إلى مساحات مشتعلة بالحرب والخلاف السياسي والشتائم والقذف والقذف المضاد، والأسوأ من كل ذلك فستتمدد هذه المنابر لتنتزع كثيرا من الصلاحيات لنفسها الأولى بها أهل الشأن والتخصص والمعرفة والعلم المكتسب. حاشية : ومنبر السلام العادل يخرج بيانا يضع فيه للدولة استراتيجية التعامل مع الجنوب ومن ذلك أن تعمل الخرطوم على تغيير حكومة الجنوب كلية والإتيان بحكومة اخرى موالية للمؤتمر الوطني!!! هنالك عبارات تقال في الرد على مثل هذه السذاجات نمسك عنها الآن، ولكن لا أدري هل قام الاخوة في النظام باستدعاء الطيب مصطفى في قاعة فخيمة ووفروا له من حافظات الماء والشاي ثم اسلموه أسماعهم ليخبرهم كيف يتم تنفيذ هذه الخطة الجهنمية؟ وليكن السؤال من سطر واحد: كيف يتم تنفيذ هذا الرأي عسكريا؟ وسياسيا؟ ولوجستيا؟ وكم يحتاج من الوقت؟ والمال؟ ربما تكفي مبيعات الانتباهة لتوفير كل ذلك؟؟! من يقل لهذا المسكين ولهؤلاء السذج من خلفه إن ادارة الدولة ليست كإدارة الصحف والمنشورات؟ هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته