** كان الصف طويلاً أمام نافذة تذاكر بصات أبوحمد، ولكن رباطبياً لم يصبر في انتظار دوره ، وقرر تجاوز الجميع والمضي نحو نافذة التذاكر مباشرة متخطياً رقاب الواقفين في الصف ، ولكن نوبياً نبهه غاضبا : (يازول اقيف فى الصف، انت ماشي وين ؟)، وما كان منه إلا أن يرد ساخراً (أنا ماشي بلدي، انت الماشي وين؟)..وهكذا تقريباً لسان حال السودان مع دولة يوغندا.. تلك الدولة لم تحتمل رؤية مشاهد استرداد أرض هجليج من قوات دولة الجنوب الأجنبية، ولذلك قالها وزير دفاعها بمنتهى السذاجة : (سوف ندعم دولة الجنوب في حربها مع السودان)، وعليه نسأل هذا المسؤول اليوغندي (جيش السودان ماشي هجليج السودانية، أها انت ماشي وين ؟)..إن كان بقواتك مروءة - أيها المسؤول اليوغندي - فادعم بها دولتك لتحارب صبيان جوزيف كوني - جيش الرب - الذين يسيطرون على شريطكم الحدوي مع دولة الجنوب..ثم إن كان قلبك على دولة الجنوب فلماذا (تخلصت حكومتك من زعيمها قرنق في ساعة ضحى؟)..ثم قواتك التي ستدعم بها قوات دولة الجنوب، لتحارب دولة السودان، هل هي ذات القوات التي كانت تولي الأدبار في مشارف نمولي وياي أم هي قوات أخرى مستوردة من خارج دولتكم؟.. نصف قرن من الزمان، عجزت خلاله قواتك عن إدخال قوات الحركة الشعبية الى جوبا، حيث عاصمتهم حالياً، فمن أين لها مقدرة دعم بحيث يهزم السودان أو يحتل قطعة أرض سودانية ؟..فالكل يعلم أطماع دولتكم في خيرات دولة الجنوب، فالتزموا الصمت واستمتعوا بتلك الخيرات بالعنوة أو بالتراضي.. هذا التهريج اليوغندي ليس مهماً..!! ** المهم ..عادت أرض هجليج الى السودان، فليعد الوعي أيضا الى الحكومتين حتى لا نعيد إنتاج الحرب في هجليج أو غيرها..قلت البارحة : نأمل أن تكون معركة هجليج هي آخر المعارك بين الدولتين، ولن تكون الأخيرة ما لم تتعظ الحكومتين من دروس تلك التجربة.. السلاح لم يعد حلاً لأية أزمة، ولكن الحوار هو الحل ..بالحوار - لا بالسلاح - نالت دولة الجنوب انفصالها، وكل القضايا العالقة - مهما كانت معقدة - فهي أقل تعقيداً من ملف الجنوب الذي طواه اتفاق السلام بالانفصال.. فالانفصال - كان ولا يزال - وسيلة تؤدي الى السلام حيث الغاية العظمى، وليس من الحكمة أن يفقد الشعبين الوحدة والسلام معاً، فالحكمة تقتضي أن يكون الانفصال ثمناً لسلام السودان وجنوب السودان.. ولكن للأسف، الانفصال لم يكن سلسلاً كما يوحي مظهره، بل كان ولايزال انفصالاً مغلفاً بالغبائن التي تفجر القنابل الموقوتة بين الحين والآخر، وما هجليج إلا (فش غبينة)..!! ** الشعب - شمالاً وجنوباً- لاناقة له ولا جمل في تلك الغبائن التي ساهمت في تكاثفها تراشقات الشريكين ومشاكساتهما طوال سنوات الحكم الثنائي.. ولكن للأسف الشعب - شمالاً وجنوباً - لايزال يدفع ثمن تلك السنوات وغبائنها..الى أن دفعها أخيراً - في هجليج - سلاحاً وموتاً وجرحاً في الهجوم وسلاحاً وموتاً وجرحاً في الدفاع، وما كان يجب إرهاق الشعبين بأثمان السلاح وأحزان الموت وآلام الجرح، ولكن الحكمة لم تكن ضالة حكومة الجنوب حين وضعت نفسها في دائرة (البادئ بالاحتلال أظلم).. فالتبرير بأن احتلال هجليج هو رد فعل لمناوشات حكومة الخرطوم غير مقنع للمواطن السوداني، خاصة أن هذا المواطن يعلم بأن مناوشات حكومة الخرطوم هي رد فعل للدعم السياسي والإعلامي والعسكري الذي تقدمه حكومة الجنوب لحركات سودانية مسلحة..نعم نقولها بوضوح: إذا أراد المجتمع الدولي سلاماً بين السودان وجنوب السودان، فلترفع حكومة الجنوب يدها عن الحركات السودانية وتقطع صلتها بكل ماهو سوداني (عقاراً كان أو حلواً أو غيرهما)..وكذلك فلترفع حكومة الخرطوم يدها عن أية جماعة أو حركة جنوبية معارضة.. وما لم يتم إلزام الحكومتين بعدم تبني الحركات المسلحة فلن ينعم السودان وجنوب السودان بالسلام.. تخطئ الحركة الشعبية لو ظنت بأنها رسول التغيير في الخرطوم، أو كما توهما حركات السودان المسلحة، وكذلك يخطئ المؤتمر الوطني لو ظن أنه قائد التغيير في جوبا، أو كما توهمه جماعات الجنوب المسلحة .. فالتفاوض الجاد يجب أن يبدأ بهذا الملف الذي يعكر صفو السلام في البلدين..وما لم يتم حسم هذا الملف - في أرض الواقع، وليس في مجرد ورقة - فلن يهنأ البلدان بالسلام حتى ولو اتفقا على البترول والمناطق الحدودية.. مغبة إيواء الحركات المعارضة هي درس هجليج الأول للحكومتين، وهناك دروس أخرى ...!!