نواصل استعراض بعض الافلام التي عرضت في مهرجان الجزيرة للافلام التسجيلية أخيرا ، عبر المقارنة بين فيلمين تناولا الهواجس والاحلام وقوتها الايجابية والسلبية – فالاحلام تحيي البعض وتميت البعض الاخر، والهواجس تدمر وتدفع الى الانزواء احيانا، مثلما تشكل لحظة لاكتشاف النفس وطاقاتها الكامنة، والانطلاق مجددا من ثم في رحلة تحدي ضد الذات والعالم المحيط. فندق برادايس او الجنة فيلم بلغاري عرض ضمن فئة الافلام المتوسطة، يحكي جانبا من حياة اقلية الغجر المنتشرة في معظم بلدان البلقان والمشاكل التي تواجهها على صعيد الاندماج والعيش اليومي، في واقع يجادل الاوروبيون بان الغجر هم من فرضه لاسباب ثقافية وسلوكية وهذا قول مردود بكل تأكيد. نعود الى الفيلم وقصة شاب يحلم بالزواج والاقامة في فندق برادايس واقناع زوجته المرتقبة بالعيش معه في الفندق. واول مفارقة وظفها مخرج الفيلم هي التناقضات بين اسم الفندق وواقعه ، فالفندق عبارة عن مبنى ضخم بني وفق اسلوب العمارة الاشتراكية المعروف بصرامته وتراتب مكوناته – لم يعد المبنى فندقا وانما نزلا لالاف الغجر الذين انتظروا طويلا حتى يحصلوا على مبنى متعدد الطوابق – انهارت الاشتراكية وانهار معها الفندق الذي بني في مكان معزول. وعليه يمكن للمشاهد مشاركة المخرج رؤيته او ايحائه بان هؤلاء دخلوا جنة مختلفة ، اي مكان قذر يتشاركه البشر والفئران والكلاب والقمامة ويعلو فيه صوت الغناء والرقص والضحك والحلم والقليل من الهواجس. عالم غجري بامتياز لا احد يتوقف عند الظاهر المعاش، فاكوام القمامة والفقر وبؤس الحال تبدو وكأنها قدر حتمي يقفز الجميع فوقه بصحبة احلام متفاوتة ذات طابع جواني عميق قد تلتقي مع الواقع وقد تجافيه تماما. ترفض خطيبة بطل الفيلم الانتقال معه الى فندق برادايس كونها نشأت في بيئة نظيفة لاسرة غجرية اندمجت الى حد ما في محيطها – يتعاون الجميع في اقناع العروسة بضرورة الانتقال الى الفندق، اي العودة الى الجذور فالاندماج في الجهة المقابلة لم يكن مكتملا ولن يكون. هذا فيما ينكب الشباب في اعداد عش الزوجية، وسرعان ما تتحول الغرفة القذرة الى غرفة عصرية بسلم خارجي يوصلها بالشارع بعيدا عن مداخل الفندق وممراته المتسخة – قصة العريس استدعت استعراض احلام وهواجس اخرى ابطالها غجر يشعرون ان الآخر لن يلتفت لهم مهما فعلوا لذلك هم ماضون في طريق يعرفون سلفا الى اين سيقودهم. على النقيض تمام جاء فيلم "احلامنا" الهولندي وهو يحكي قصة شباب تتراوح اعمارهم بين الرابعة والعشرين والرابعة والثلاثين. شباب يحملون شهادات جامعية ويعيشون في شقق نظيفة وفرتها لهم الدولة ومع ذلك يسيطر عليهم الخوف والقلق من المستقبل - كلهم يترددون على اطباء نفسانيين وهذا ترف لم يتوفر لنزلاء فندق برادايس الذين لم يشعروا انه في حاجة للطب النفسي اصلا. يعيش ابطال الفيلم تحت ضغط الهواجس يبرزون انفسهم كابناء شرعيين للحياة المعاصرة بكل ضغوطها ومشاكلها. يظهرون فرادى على نقيض الجماعية التي تميز فندق الجنة – تطفر منهم دمعات متقطعة احيانا ، احدهم مثلا يقول انه يحن لامه التي تعيش معه في نفس المدينة ، انه ضحية نظام اجتماعي انتج في سياق تاريخي واقتصادي لم يعد يعبأ كثيرا بالاسرة والجماعة. تختلف الاحلام والهواجس بين مجتمع وآخر بل بين نفس واخرى ، لا تهم الاغلفة الخارجية وما تراه العين، ففي منطقة ما داخل الانسان ، تكمن طاقة الحلم وقوة الهاجس والشاطر من ينجح في توظيف الاولى ولجم الثانية وهذا ما حاول الفيلمان التنبيه اليه.