وأنا أتأهب لمغادرة ماليزيا والعودة للخرطوم لابد لي من ختم مقالاتي عن هذه البلاد الجميلة التي بهرت العالم خاصة العربي والإسلامي بتقدمها وجمالها الأخاذ حتى صارت مباءة لكل راغبي الاستثمار الناجح ولطالبي السياحة والاستجمام بجانب كثير من الشباب الذين أرسلتهم أسرهم ولا زالوا لتلقي العلم في جامعاتها التي تتماهى مع أفضل الجامعات الغربية سيما وأن تكلفتها تقل عنها كثيراً هذا غير أن الطلاب المسلمين خاصة أسرهم المحافظة تجد في ماليزيا مناخاً دينياً من حيث انتشار المساجد واهتمام الدولة بالدين كطاقة معنوية للتقدم ومواكبة العصر وليس فقط قوانين للعقوبات فماليزيا تتحقق فيها الحريات الدينية بشيءٍ مطلق لدرجة أننى رأيت مظهراً أعجبني وشدني ففي المسجد الكبير الذي تم تشييده في العاصمة الجديدة بتراجايا يأتي السواح من غير المسلمين لزيارته ومشاهدة صرح إسلامي جدير بالمشاهدة فكل مايطلبونه من النساء غير المسلمات السافرات هو ارتداء عباءة جاهزة في الاستقبال تغطي أجسادهن ثم يسمح لهن بالدخول ومشاهدة ذلك البناء الضخم الذي يمثل روعة الفن الإسلامي. لن أقول إن ماليزيا لا تخلو من الأخطاء والسلبيات مثلها مثل أي تجمع بشري فهناك العديد من المظاهر السالبة والتي تحتاج للمعالجة وهناك من يروي مظاهر يمنعني الحياء من ذكرها ولكن لن أنسى تعليقاً قاله أحد الماليزيين يسخر من قومه بأنهم يعيشون أوضاعاً متقدمة وتسهيلات عصرية من الدرجة الأولى بعقلية من الدرجة الثالثة فعلقت ساخراً (والله كويس كون الماليزيون يتعاملون مع عصرهم بعقلية الدرجة الثالثة فنحن في العالم العربي نتعامل معه بعقلية القرون الوسطى!!).. على الأقل لم يكن لهم حكام ولغوا في بحور الدم وتفننوا في تعذيب الأجساد والعقول والأعراض والضمائر وسرقوا أموال شعوبهم مثلما فعلنا في العالم العربي حتى احتقن فانتفض يثأر لحريته وكرامته. زرت إحدى الجامعات التي ابتعثت فيها ابنى أحمد (جامعة ليمجدكو كوينق) فوجدت مستوى عالياً متقدماً في مختلف المسارات العلمية المختلفة خاصة في هندسة العمارة والتصميم بأنواعه وإدارة الأعمال وغيرها من مسارات علمية لو كان لنا مثلها لوجدنا لأبنائنا فرصاً أوسع للعمل داخل السودان والمنافسة في الخارج ولشد ما لفت نظري عند مدخل الكلية معرضاً صغيراً به لوحة زجاجية كبيرة داخل صندوق زجاجي فيه أسطوانة بيضاء لعلها من الفضة وبجوارها صورة كبيرة لرائد النهضة الماليزية السيد مهاتير محمد الذي افتتح وشجع قيام هذه الجامعة الرائدة تحتها أسطوانة تطلب عدم فتحها إلا عام 2020م هي السنة المخطط لها إحداث طفرة كبرى في ماليزيا علمياً واقتصادياً ويكفي فقط أنهم خططوا ليكون دخل السياحة 138 مليار رنقت أي ما يقرب من 36 مليار دولار سنوياً، هذا غير الصادرات الأخرى والطفرة في مختلف المجالات. في ماليزيا حراك سياسي وديمقراطية لم تبلغ حد النضوج الكامل مثل الدول الغربية بالتبادل في السلطة بين حزب الحكومة والآخرين ولعل ذلك مرده إلى القبول الشعبي الواسع له و نجاحه في نقل ماليزيا إلى ماهي عليه من تقدم وازدهار وحسن إدارة للتنوع العرقي ورغم ذلك فالديمقراطية تنمو باضطراد وتنضج تدريجياً والتغيير السلمي المتحضر مستمر داخل قيادات الحزب الحاكم جسده أكثر السيد مهاتير بتنازله طوعاً بعد عقدين ونيف وعدم إصراره على الكنكشة مثلما فعل مانديلا – وكان بإمكانه فعل ذلك لما قدمه من إنجازات لا يزال الماليزيون يعترفون له بالفضل كأفضل حاكم... لقد اختار الماليزيون – مدنيون وعسكريون - بفضل حكمتهم وعبقريتهم وعقلهم السياسي المستنير الناضج نهج التطور السياسي والدستوري بديلاً للعنف الثوري والتغيير العسكري.. لهذا تقدموا.