في ندوة جامعة بقاعة الصداقة أمّها جمع غفير ضاقت بهم جنبات الصالة الرئاسية بالقاعة مساء أمس الأول ، اصطف الحضور يستمتعون بحديث الرجل الذي انسال كالذهب فوقع على مسامع الحضور كالبرد والسلام، فالندوة التي حضرها أهل السياسة وصناع القرار، وعلى رأسهم الأستاذ علي عثمان محمد طه النائب الأول لرئيس الجمهورية راعي الندوة وعبد الرحمن الصادق المهدي مساعد الرئيس ووزير المالية ووالي الجزيرة ووزير الإعلام ووالي الخرطوم ورئيس المجلس الوطني ومدير جامعة الخرطوم وجموع من المثقفين والإعلاميين والمهتمين، كانت جديرة بالرصد والاهتمام، وطغى على الحضور عنصر الشباب من الجنسين، فالندوة عن تجربة النهضة الماليزية، والمتحدث فيها رائد تلك النهضة د. مهاتير محمد رئيس الوزراء السابق. من الفقر إلى النمو د. مهاتير استهل الندوة بنبذة صغيرة عن ماليزيا بعد أن نالت استقلالها، فقال: ماليزيا كانت دولة فقيرة بعد نيل الاستقلال، وكان دخل الفرد فيها منخفضاً جداً، والاقتصاد كان يعتمد كلياً على جمع وتصنيع المطاط فقط ، ومُعدّل البطالة كان يزيد عن (50%)، وماليزيا لم تكن تتبنى أية أيديولوجيا سواء أكانت اشتراكية أو رأسمالية ، بل كانت دولة براغماتية، وأضاف: رغم وصول ماليزيا لاقتصاديات السوق العالمية فلم تكن لديها صعوبة في تقبل النظام الاقتصادي الاشتراكي، حيث قررت بعد الاستقلال الاعتماد على النظام الاشتراكي لمدة (5) سنوات، وكانت هذه هي الخُطة الخمسية، ثم تبعتها خطة عشرية ثم خطة ربع قرنية وذلك بوضع الرؤى والأهداف لتحقيق البنى التحتية والتمكن في قيادة الاقتصاد ورقيه ليبلغ الآفاق، وتابع: في العام 1991م وضعت ماليزيا خطة تمكنها أن تصبح دولة كاملة النمو بحلول العام 2020م، واعتمدت هذه الخطة الأخيرة على قيادة الاقتصاد برؤية ثاقبة مع الاهتمام بتجارب الدول الناجحة في هذا المجال، واليوم قد أنجزت ماليزيا الكثير مما وضعته لتخرج بشعبها للوصول إلى دولة كاملة النمو . الخطط الهادفة واستطرد د. مهاتير رائد النهضة التنموية بماليزيا في الندوة التي حَمَلَت عنوان: (تأملات حول تجربة ماليزيا في التنمية)، بإيضاح أن ماليزيا اعتمدت على وضع الخطط الهادفة والطموحة مع ضرورة الإصرار على تنفيذها رغم الصعوبات، بجانب الاعتماد على الموارد المتاحة واستغلالها الاستغلال الأمثل، وبهذه المنظومة الصادقة استطاعت ماليزيا أن تصمد في الوقت الذي فشلت فيه الأسواق الأوروبية والأمريكية، وتبنت أسواقاً إضافية استوعبت أكثر من (40%) من أنشطتها. الخروج من الأزمة د. مهاتير واصل سرده السلس للتجربة الفريدة بالقول: لم يكن يعرف الشعب الماليزي في السابق سوى تنظيف الغابات وحصد المطاط، وبفضل الخطط المدروسة والرؤية الثاقبة استطاعت الحكومة الماليزية أن تتعرف على الغابات وتُشجِّع على زراعتها بالطرق العلمية مع الاستفادة من التقنيات الحديثة، حيث وفرت الحكومة مساحة (10) أفدنة لكل مواطن ماليزي عاطل عن العمل، وبالتالي أتى التركيز على الزراعة في قائمة الاهتمامات الحكومية، ونما هذا المشروع وأصبح أكبر مشروع في العالم وامتد ليشمل مساحة أكثر من مليون هكتار، وتمدد المشروع الزراعي وتعدى زراعة وحصد المطاط فقط، ليشمل المشروع زراعة النخيل والاستفادة منه باستخلاص زيته وتعبئته وتصديره وإدخاله في الصناعات، وأضاف: بالرغم من هذه المشاريع الناجحة إلا أنه ما زال هنالك الكثيرون من الذين لا يجدون وظائف وهنالك فجوة لفرص عمل، فكان أن قررت الحكومة إيجاد فرص عمل أخرى في ظل شح رأس المال وقلة الكوادر وضعف الخبرة بالسوق الأجنبية خصوصاً ان السوق الماليزي صغير جداً آنذاك، وبالتالي كان هنالك حديث للاستثمار الأجنبي الخارجي، وبالطبع قررت الحكومة فوراً تشجيع الاستثمارات الأجنبية بتقديم الحوافز وعوامل الجذب التي ترغب المستثمر على الاستثمار في ماليزيا، وأبان أن أكثر ما ركزت عليه الحكومة إقامة صداقات استثمارية مع الدول المتمكنة والمتقدمة، فالحكومة لم تسع لجمع الضرائب والجمارك من هؤلاء المستثمرين، بل فرضت عليهم قيمة (26%) فقط من قيمة الأرباح تدفع للحكومة وبالتالي الدفع بعجلة الاستثمارات الأجنبية، واعتبر أن هذا الصنيع شجع الكثيرين من المستثمرين على الاستثمار بماليزيا، وبالتالي زادت القوة الشرائية ونمت الاستثمارات المحلية مثل تغليف وتصنيع الأغذية، وهذا النمو في الاستثمارات أدى لنشاطات زراعية وصناعية كان لها الأثر العميق في نمو وازدهار الاقتصاد الماليزي فأصبحت ماليزيا تصنع السيارات للإيفاء بنقل البضائع ونقل المواطنين، وهذه الحاجة خلقت فجوة للصناعات الصغيرة لتلبية احتياجات السوق الماليزي، وزاد: اليوم ماليزيا تنتج الكثير من أنواع الحديد مثل الألمونيوم الذي يدخل في الصناعات الكيميائية واحتياجات الصناعة البترولية لدعم الصناعة النفطية إضافةً للسفن النفطية المتخصصة والموانئ والمرافئ والبنايات الشاهقة . دور القطاع الخاص لعب القطاع الخاص دوراً بارزاً في إحداث النمو والتطور في ماليزيا لجهة توافر رأس المال والكادر المؤهل والخبرات والخطط المدروسة بعمق. يقول د. مهاتير، ويضيف: القطاع الخاص في بدايته ركز على قطاع النقل وبناء وإنجاز الطرق اللازمة، فالصناعة تحتاج لكل هذه الخدمات لنقل المنتجات الصناعية، فقامت برصف طرق تمتد من الشمال إلى أقصى الجنوب بمسافات تتجاوز ال (900) ألف كيلو متر، وأوضح أن الحكومة الماليزية نجحت في إدخال القطاع الخاص لإحداث التنمية والنمو المطلوب، وكان أن نجح القطاع الخاص فغطى جميع البلاد وسهّل عمليات النقل و التسفار الداخلية ووفر فرص عمل كبيرة وخبرات وتأهيل للكادر البشري الماليزي مما أسهم بطريقة مباشرة بزيادة قطاعات السياحة والمطاعم والفنادق إضافة لخلقه لوظائف أخرى وتطوير مجال الأعمال . السياحة والتنمية (السياحة هي الصناعة الثانية بماليزيا) هكذا قالها مهاتير ، مضيفاً : فماليزيا قبل الاستقلال لم يكن بها معالم تاريخية ولا مناطق سياحية كما هي عليه الآن، وماليزيا اليوم تمتلك أشهر برج توأم في العالم وأصبح من المعالم العالمية الدالة على ماليزيا، كذلك تبنت الحكومة الماليزية صناعة أماكن الترفيه والسياحة مما جذب ملايين السياح من كافة دول العالم لما تتمتع به ماليزيا من جمال الطبيعة والأنهار والشلالات والمناظر السياحية البديعة . فائدة التجربة اليابانية ويواصل د. مهاتير سرد تجربة بلاده التي قادها وأعتلى بها أعلى قمم التنمية والرقي فأصبحت من الدول التي يُشار إليها في شتى مجالات التنمية وأصبحت الدولة رقم (17) في عالم الانتاج، ففي الثمانينيات من القرن الماضي قررت ماليزيا أن تنظر للشرق خصوصاً دولتي اليابان والصين وذلك للأخذ بتجربتهما الناجحتين واللاتين استطاعتا أن تنهضا ببلديهما بالرغم من الدمار الكبير الذي لحق بهما إبان الحربين العالميتين الأولى والثانية، وقال مهاتير: (أعتقد أن أخلاقهم قد لعبت دوراً كبيراً في تطوير بلادهم)، إضافة لإخلاصهم في عملهم واعتنائهم واحترامهم لعملهم، بجانب إهتمام حكومتيهما بتأهيلهم والاعتناء بهم وتطويرهم باعتبارهم أعظم ثروة بشرية جديرة بالاهتمام والعناية، ووصف مهاتير الشعب الياباني بأنه طموح لتحقيق النجاحات ويشعر بالخجل عندما يفشل في تحقيق شئ ما، وأحياناً قد يصل بهم الأمر للانتحار - لكنه علق ضاحكاً: هذا الانتحار الآن غير موجود - فاليابانيون شعب يَتُوق ويتطلع ليرى أعماله ناجحة، فهذه المنظومات الراقية نفتقدها جميعاً في بلداننا وشعوبنا، وأشار مهاتير إلى أنهم سعوا للاستفادة من هذه المنظومات، لكنه أضاف: عمالنا لم ينجحوا في تطبيق هذه المنظومات كما كنا نتطلع ولكن الجودة تحسنت كثيراً وتمكنا من الدخول في السوق العالمية وربطنا القطاع الخاص مع القطاع العام ونجحنا في تحاشي الفساد والكساد. وكان لا بد للحكومة الماليزية من الاستفادة الكاملة من التجربة اليابانية في إحداث التنمية الكاملة فقد قررت الحكومة إرسال العمال الماليزيين ليعملوا في الشركات والمصانع اليابانية وبذلك تعلموا منهم الجانب العملي والأخلاق المهنية العالية والهمة العالية للنجاح والإنجاز، وتطورت العلاقات وتطورت بإرسال الطلاب الماليزيين للدراسة في اليابان، ووفرت الحكومة الماليزية ربع ميزانيتها للنهوض بقطاع التعليم حتى يتمكن أكبر عدد من الماليزيين من تلقي القدر الكافي من التعليم الذي به تنهض الأمم والشعوب وتتحقق التنمية الشاملة المرجوة فالنجاح يأتي بالنجاح ، واختتم مهاتير حديثه بالعبارة: (كل ما ترونه في ماليزيا كان بتنفيذنا للخطط التي وضعناها مسبقاً ).