نحن .. والآخر في عالم الغابة، تتسابق كل الأشجار نحو الأعلى. كل شجرة تطمع في الحصول على أكبر قدر من ضوء الشمس، الشجرة الأطول تحصل على النصيب الأوفر من ضوء الشمس. ولو توافقت كل أشجار الغابة فيما بينها ووضعت حداً لسباقها المحموم نحو الأعلى، لوفرت على نفسها كثيراً من الطاقة ولنالت كل شجرة كفايتها من ضوء الشمس دون أن ينقص منه شئ. ولكن، تقضي المشيئة ألا تتوافق أشجار الغابة وتمضي حثيثاً في تسابقها نحو الأعلى، وتحاول كل شجرة حجب ضوء الشمس بتاجها الضخمة عن الشجيرات والأشجار الأخرى الأقصر منها فتتطاول سيقان الأشجار وتمتلئ أخشاباً، فكان عدوها الإنسان هو الرابح. في عالم البشر تروى ذات الحكاية ولكن بسيناريو مختلف، يرويه ديفيد بيربي في كتابه "نحن وهم" نقلاً عن مذكرات أحد المهاجرين الأوربيين الأوائل الذين استوطنوا ولاية أوريجون الأمريكية عام 1857م، بقوله: (عندما أتينا وجدنا العديد من السكان الهنود الأصليين مرضى وجوعى وكانوا يتوسلون إلينا بشدة طلباً للرحمة والغذاء، وقد آلمني ذلك كثيراً، ولكن كان الفهم العام السائد بيننا حينها هو قتلهم جميعاً، فأبدناهم جميعاً). ويورد ديفيد بيربي دراسة أجريت عام 1943م على بعض الأمريكان، وجد أن الصفات والخصائص التي يحملونها للأمم الأخرى قد تأثرت كثيراً بالحرب العالمية الثانية. فالصفات والخصائص التي كانوا يحملونها في أذهانهم عن اليابانيين مع بدء الحرب قد حلت محل تلك التي كانوا يحملونها عن الصينيين، والعكس صحيح. فاليابانيون الذين كان الأمريكان ينظرون إليهم كأناس تقدميين كادحين مولعين بالفنون أصبحوا بعد دخولهم الحرب وتدميرهم للأسطول الأمريكي في بيرل هاربر أناسا خبيثين وخائنين ومخادعين. أما الصينيون الذين كانت نظرة الأمريكيين إليهم قبل بدء الحرب خبثاء وخونة فقد أصبحوا بعد الحرب لطيفين ومحافظين. وفي دراسة أخرى أجريت عام 1951م وجدت أن نظرة الأمريكيين قد تحولت بالنسبة للروس من كونهم شجعان ومكافحين في العام 1942م إلى قساة ومغرورين في عام 1948م. وفي العام 1959 الذي قضت الهند والصين معظم أشهره في جدال ونزاع حدودي مرير، تحولت كل الصفات التي كان يطلقها الهنود على الصينيين (متدينين، وكادحين، وودودين وتقدميين ومستقيمين) إلى نقيضها (معتدين ومخادعين وجشعين وتجار حرب قساة). لقد أثبتت كل الدراسات أن النزاعات السياسية تغير من مفاهيم الناس نحو بعضهم البعض، بل أن قوائم الخصائص الأساسية للمجموعات البشرية يمكن أن تتغير في ظروف أقل درامية. على سبيل المثال، أجريت في لبنان دراسة عام 1960 على طلاب مسلمين. طلب منهم فيها أن يختاروا كلمات من قائمة معدة سلفاً وتطبيقها في توصيف جنسيات ومجموعات عرقية متنوعة. فوجد أن الأمريكان غالباً ما كانوا يوصفون بكلمات سالبة إذا ما وردت مجموعتهم بعد المجموعة الألمانية في القائمة. أما إذا ما جاءت مجموعتهم بعد مجموعة الروس فغالباً ما توصف بكلمات تحمل صفات موجبة. وفي دراسة أخرى وجد أن الطلاب عند مقارنتهم لثلاث عشرة جنسية ومجموعة إثنية مختلفة وضعوا المجموعة الفرنسية في المرتبة السفلى ووصفوها بالأنانية والمادية والخسة والوضاعة. وحينما سئلت مجموعة أخرى لمقارنة المجموعة الفرنسية بالمجموعات الأربع الأقل شعبية في القائمة، كانت النتيجة لصالح الفرنسيين الذين وصفوا بأنهم اجتماعيون ورفيعو الذوق ومتحضرون وديمقراطيون. خلاصة القول أنه عندما تطلب من بعض الناس توصيف بعض المجموعات البشرية (كالأمريكان أو الفرنسيين أو السودانيين الشماليين أو الجنوبيين)، تكون استجابات الناس لهذا الطلب محكومة بنوعية سلوك هذه المجموعة وما بدر منها قبيل السؤال مباشرة، وهذا ما يفسر الوصف الذي أطلق على الحركة الشعبية الحاكمة في دولة الجنوب عقب أحداث "هجليج" الأخيرة، سواء نعتت ب"الحشرة الشعبية" نتيجة لإلحاقها الضرر بهجليج أو بنعت آخر ك"الحشرة القشرية" مثلاً التي أضرت بنخيل الشمال، فهذا نعت يتعلق بالسلوك الذي انتهجته الحركة الشعبية الحاكمة في الجنوب باعتدائها الغادر على هجليج ولا يتصل بجوهر الطبيعة البشرية لأفراد وقادة الحركة الشعبية كما حاول وزير الإعلام في حكومة جنوب السودان الإيهام بذلك في مؤتمر صحفي عقب الأحداث مباشرة وتحميل التوصيف الذي وصف به سلوك الحركة الشعبية غير ما يحتمل لإستغلاله سياسياً. فالمنطق يقول أن الانقلاب الذي حدث في سلوك اليابانيين هو الذي أحدث الانقلاب في نظرة الأمريكان إليهم، من نظرة الإعجاب قبل الحرب إلى نقيضها تماماً بعيد دخولهم الحرب عام 1943م وهجومهم على الأسطول الأميركي ببيرل هاربر، وليس لأن أن اليابانيين قد توقفوا فجأة عن لعب دور الأمة الكادحة المولعة بالفنون والتحضر والرقي! وكذا الحال بالنسبة لتبدل النظرة إلى الحركة الشعبية (الحاكمة الآن في الجنوب) من شريك في حكم السودان قبل الانفصال إلى الصفة التي وصفت بها عقب اعتدائها المفاجئ والغادر على هجليج. عموماً الفرصة متاحة للحركة الشعبية الحاكمة في جنوب السودان لأن توصف بغير الأوصاف التي وصفت بها بعد واقعة هجليج إذا ما أحسنت السير وقومت السلوك. هكذا تتباين المواقف من الآخر وتتعدد في عالم الإنسان والأشجار على حد السواء: إما إلغاء واستئصالاً وإبادة وتدميراً وإهلاكاً من منطلقات حب الذات والجشع والأنانية والمصلحة الخاصة كما حدث مع الهنود الحمر في أميركا. وإما قبولاً واعترافا بالآخر والإقرار له بحق الحياة والعيش والتعايش معه والمشاركة في صنع الحياة في إطار من القواعد والمعادلات المتكافئة والتي إن أحجم طرف في الإسهام في صناعتها وصياغتها فرضت عليه فرضاً كما يحدث في عالم الطبيعة بين أشجار الغابة.