أنا نباتي فكريّاً عمرو منير دهب هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته "شهية الصياد" مصطلح يُطلق تعبيراً عن عشق الإنسان الفطري للّحوم منذ عصور الصيد السحيقة التي تطوّرت لاحقاً إلى الرعي بتطوُّر ملكات الإنسان إلى القدرة على استئناس الحيوانات للإجهاز على بعضها وهو مطمئن إلى كنفه، والأرجح أن عصور الرعي لم تكن في الأساس سوى تطوُّراً لشهية الصياد تلك التي هي بالتعبير الصريح شرعنة الإنسان للتوحُّش.. توحشه تحديداً. والإنسان ينعى على الغابة شريعتها ثم يعود فيطبِّق تلك الشريعة بما يتجاوز حذافيرها إلى معانٍ ملهمة أكثر وحشية للأسف، فمعلوم أن الحيوان عموماً لا يهاجم إلّا خائفاً يدافع عن نفسه، وأكثر الحيوانات وحشية لا يبحث عن فريسة إلّا عندما يشعر بالجوع. ومعلوم كذلك أن الإنسان قد طوّر مبدأ الدفاع عن النفس عموماً إلى الهجوم استباقاً بدعوى هجمات متوهّمة من أعداء افتراضيين. أما عندما يتعلَّق الأمر ببطنه فلا أبشع من وحشية الإنسان، حتى إن التعبير "إنساني" أولى بذلك أن يُفهم في الاتجاه المضاد لما قُصِد من اشتقاقه، فسيّد المخلوقات على وجه الأرض يجوع فلا يأكل مما يليه من خير الأرض بل يبتدع الحيل للنظر في أهون المخلوقات خَلْقاً وخُلُقاً ليجهز عليه، لا.. بل يصبر فينظر أيّها أشهى طعاماً ليستأثر به، ثم يتخيّر من بين الأشهى الأصغرَ ( تأمّل الإنسانية) ليستحوذ عليه، ثم يرقى في التشهِّي فيصطفي الظهر أو الضلع أو الصدر، وقد يروقه اللحم مجرّداً وقد يسيل لعابه لما جاور العظم، بل إنه يذهب وراء ذلك كله فيشير إلى قِطع اللحم بأسماء التدليل على شاكلة " الرِّيَش" و "الباسم" بدافع محاولة بائسة لتخفيف وطأة الفاجعة وإضفاء المرح على جريمة ظلّت تُرتكب في وضح النهار منذ بدء الخليقة البشرية. أقول ذلك لأنني بالفعل نباتيّ بإخلاص شديد للنظرية، ولكن ليس بما يجاوز الفكرة إلى أيّ حيز من الواقع في التطبيق حتى وأنا بصدد اتّباع حمية قاسية. والإخلاص لمبدأ وهو معلّق خيالاً في السماء بداية طيبة بشرط ألّا يطول ما بين تلك البداية السماوية ونزولها إلى الأرض حيث الاختبار الحقيقي للمبادئ. ولكن الأدهى في مبدئي مع "النباتيّة" ليس فقط أن انتظار نزوله إلى الأرض قد طال، فأنا أصلاً راضٍ تماماً إلى مسألة تحليقه في السماء، وليست لديّ أية نية – وشيكة أو بعيدة كما يبدو للمقربين من حولي – لإنزاله سنتميتراً واحداً دون ما هو عليه من الارتفاع، ولا عذر لديّ سوى شهية الصياد التي تطْبق على حواسي من كل اتجاه. بدافع التجربة والمغامرة – لا غير - أعود من رحلة عمل في أحد أصقاع الأرض لأفاجئ من حولي باختبار لحوم أحد الحيوانات الجديدة على مائدتنا، وربما على مزارعنا وبرارينا بأسرها. يقول سامر- وهو زميل عمل مولع بالثقافة - عندما أستفزه لتجربة طعام جديد:" إنني أحترم سائر ثقافات الشعوب واختلافاتها ما عدا ما كان متعلِّقاً منها بالطعام"، تلك وجهة نظر ترقى إلى مرتبة التهمة الثقافية تشفع لها معدة حساسة وليس حفنة من المبادئ النباتية على السماء أو الأرض. على أية حال لا يمكن تجاوز الوحشية الكامنة في الإجهاز على روح للاستمتاع بتناول الطعام حتى عندما تكون تلك ضرورة، ولا يمكن غض الطرف عن أن بعض الحيوانات أدعى إلى الشفقة في هذا المقام من بعض، والواقع أنها شفقة الإنسان على نفسه لا على صنوه الحيوان، فنحن أكثر حنوّاً على ما نستأنسه بدافع الألفة لا ما نستأنسه بدافع الإجهاز عليه ( انظر إلى مفارقة الاشتقاق) ولو كان الأخير أكثر رقة في الخَلق ودعة في الخُلق ( من سمع عن دجاجة غدّارة أو خروف نطّاح؟)، وهكذا فإن الإنسان عندما يبكي كلباً فقده إنما يبكي أنسه الذي تبدّد. بالعودة إلى سماوية ميولي النباتية ومفارقاتها، وفي أعقاب رحلة عدت منها وفي فمي دماء كنغارو صغير، قطعت على زوجتي وعداً بأن مغامراتي في تذوُّق اللحوم ستقف عند حدود القردة، وقد خشِيَتْ أن أعود إليها يوماً من رحلة عمل في الأدغال منتشياً بتجربة لحوم البشر. شهية الصياد جامحة عندما تستبد بالبعض حتى إنها تحملهم على الاحتيال على ما لا يحتمل اللبس من أحكام الشريعة، ففي بعض نواحي الخليج يفتي بعض كبار السن بأن أكل لحوم الضباع ( وأنيابها من الوضوح بمكان) لا إثم فيه إذا أجهز الواحد على الفريسة وقطع فخذها الأيمن ( تأمّل الاصطفاء) ثم عمد إلى باقي الطريدة فرماه استغناءً وتعفُّفاً. المفاضلة بين أنواع اللحوم ( الحلال) موضع خلاف مشهور يخضع لذائقة كل واحد وثقافة كل مكان، وفي قول شهير لأحد الأصدقاء أن الأجود والأضمن في سائر أنواع الطيور هو الدجاج، وقياساً على ذلك التعميم يمكن القول بأن الأجود والأضمن في سائر أنواع اللحوم الحمراء هو الضأن. وإذا كان لا بأس من أن أدلي بمزيد من التفصيل في المسألة أضيف بأن الأهم في مقام الحكم على الأشهى والأضمن من أنواع اللحوم هو طريقة الطبخ والإعداد إضافة إلى بيئة الحيوان وسنِّه وهو يترعرع بريئاً غافلاً قبل أن يُجهَز عليه، فليس لنوع الحيوان وفصيلته دور يُذكر إزاء وصفات المطابخ العالمية وأسرارها المتعاظمة في الصنعة، والمعذرة لكل قارئ نباتي صادق ومخلص يسوؤه هذا الاقتحام غير المهذب ممن لا يجرؤ على إنزال مبادئه السامية إلى الأرض عندما يتعلّق الأمر بشهية الصياد. ما الذي فعلته العولمة بالطعام؟ بدايةً أكّدت على أنه ثقافات ثم أجهزت على تلك الثقافات لصالح واحدة كما هو الحال مع سائر أشكال العولمة. وبوصف أمريكا تحديداً مبتدع العولمة ومروِّجها الذي يوشك أن يكون حصرياً، فإن سيرة المطابخ العالمية كادت تُختصر فيما يقرُّه المطبخ الأمريكي الذي لم يبتدع أكبر ولا أعمق من شريحة الهامبورغر، وهي في الأصل منسوبة إلى مدينة هامبورغ الألمانية ( تأمّل..حتى الهامبورغر!). ولأنه من الحكمة لأمريكا كالعادة أن تترك للصين مساحة في سوق العولمة اتقاءً لشرها الذي تُفضِّل أن تقرّ به ولكن على هيئة "مارد في قمقم"، فإن المطاعم الأمريكية العالمية تفسح على ردهات الطعام في المولات مساحات جانبية للمطاعم الصينية ترتادها حفنة ممن لا يزالون يقبضون على جمر تعدُّد الثقافات ليس من بينهم كثير من الصينيين على أية حال. إلى ذلك فإن العولمة بدّدت بهجة الزهو بتذوّق الغريب لدى هواة ومدمني الأسفار، فأنت لم تعد بحاجة إلى أن تتوغل في أدغال إفريقيا لتزهو بأكلة تمساح، وحتى وجبة الكنغارو نفسه متاحة في سويسرا (في مطعم منغولي!) وليس فقط في موطنه الشهير في القارة الأسترالية القصية، بل إن جزيرة صغيرة ودانية كالبحرين أضحى بها من المطاعم ما يقدّم تلك الخدمة وبأسعار منافسة. رجوعاً إلى رأس الحربة في معركة العولمة، سطت أمريكا – فيما سطت - على خصوصيات المطابخ العالمية حتى كادت تنسب البيتزا بشهرتها المدوّية إلى نفسها وليس لها من شرف الانتساب إليها سوى سلسلة مطاعم متطفلة عابرة للقارات لا يمكن إنكار أنها أجادت تسويق المنتج الغذائي الإيطالي الشهير بفنون جديدة وجذابة في البهرجة والتسويق. هل للعولمة – على كل صعيد - فضل أبعد من ذلك؟