القومة ليك ياوطني أبو علي اكلاب عرف المصريون بحبهم لوطنهم مصر ويقال أنه إذا غاب أحدهم عن ارض الكنانة حينا من الدهر وعند عودته لها وبمجرد أن تطأ قدماه أرض مصر أم الدنيا فانه "يقبل" ترابها هياما ووجدا.. إن حب الوطن سمة حضارية تؤكد ارتباط الانسان بتراب بلاده لان الانسان مخلوق من ذرات ذلك التراب، والذي يتشوق وينجذب اليه والانسان حيوان اجتماعي وتكمن قوته في تماهى حركة افراده وتناغمها مع الاخرين وحب الوطن مدعاة لحب المواطنين والاعتزاز بابداعاتهم، وما يميز الشعب المصري عن الأمم الأخرى وما يؤكد اصالته تقديره للنابغين في مختلف ضروب الحياة فالمبدعون هم نجوم وكواكب الشعوب وهم يمثلون روح امتهم يروجون لسماحة خلقها وقيمها الرفيعة ويحملون ثقافتها ليسودوا بها العالم فلا غرو أن تفردت مصر أم الدنيا بالقيم النادرة فعلى ثراها كانت أول حضارة عرفها العالم عطرت الدنيا بأريجها إنها ارض المعجزات ارض الاهرامت ومعجزة "تحنيط الموتى" العلم الذي احتار علماء زماننا في معرفة "سره" وكنهه ومصر التي حطمت اسطورة تكنلوجيا خط برليف وبددت احلام اسرائيل وادخلت الرعب في افئدتهم وأعادت الثقة للجندي العربي الذي سيطرت على عقله أوهام اسرائيل. ويمتاز افراد الشعب المصري بالذكاء وخفة الدم وطلاقة اللسان ويتفق المصريون عن بكرة ابيهم بحبهم ل "الثلاثة" أشياء- النيل- الرئيس- مصر انها الثوابت "الثلاثة" والتي لايختلف اثنان من المصريين في تقديرها وحبها حبا يصل درجة التقديس احيانا، لعل هذا سبب تماسك الشعب المصري أنهم يحبون مصر فهى رائدة العالم واقدمها حضار, حسب اعتقادهم ويقدرون "الرئيس لانه رمز" مصر الحبيبة ويحبون النيل لانه مصدر معيشتهم وواهب الزرع والضرع والحياة. ويعتبر الشعب السودان الأخ الاصغر للشعب المصري والذي رضع من ثدى مؤسسات مصر التعليمية وفتح عيونه على حضارات العالم عبر بوابة مصر. والمصريون يعتبرون السودان الجزء الجنوبي من دولة مصر "جنوبالوادي" والشاهد في مسالة "الجنوب" والشمال في كل العالم أن الجنوب دائما هو الجزء المتخلف بينما الشمال هو الجزء المتقدم وكثيرا مايدور الصراع والتنافس بينهما جنوب افريقيا جنوب السودان وأمريكا الجنوبية.. ثم أن الشاعر في كل مجتمع هو روح الامة والناطق الرسمي لقومه لنستمع الى أمير الشعراء أحمد شوقي لنعرف أين يقع السودان من اهتمام قادة مصر وخطبائها يقول: "علاما الخلف بينكمو الاما وهذى الضجة الكبرى علاما" "فاين النصر لامصر استقرت على حال ولا السودان داما" وفي منظور صفوة المصريين وقادتها فانه لا استقرار لمصر ما لم يتحقق استقرار السودان فمصر هي السودان والذي عبره يتدفق النيل لينهمر صوبها ليبعث الحياة في اوصال يباب الارض ويحيلها الى مزارع وحدائق غناء ومصر هى "حضر" السودان ومنبع لعيون العلم التي نهل منها السودانيون وبلغوا المرتبة الاولى بين القراء العرب حيث سرت العبارة التي تقول مصر "تؤلف" ولبنان تطبع والسودان "يقرأ" ولقد القت كل النظم التي حكمت مصر بظلالها على السودان سلبا أو ايجابا حكم الفراعنة- الرومان- العرب- الاتراك- البريطانيون- ونتيجة لذلك التداخل والهجرات المعاكسة كان التمازج بين الشعب المصري والسودان قويا له عمقه على امتداد وادي النيل. ومن مثالبنا نحن الشعب السوداني اننا انفعاليون، حادوا الطبع وثوريون "حرونون" ونتفق نحن السودانيين فيما يشبه الاجماع "بكرهنا" للثلاثي الذي يعشقه الاخوة المصريون "النيل ومصر والرئيس" وقد يكون سبب عدم استقرارنا ناتجا من كرهنا ورفضنا لتلك "الثوابت" وقد يعزى عدم اعتبارنا لها لتركيبتنا الاثنية، وقد يكون نتاج طقسنا ومناخنا الحار أن الرئيس الذي يتفق حوله السودانيون لم يولد بعد، ثم أننا لانكرم قاداتنا الابعد مماتها لذلك من امثالنا "ان شاء الله يوم شكرك ما يجى". ولعل القارئ الكريم يذكر قصة الطالب "النجيب" والعبقري الذي تدفقت قريحته اللالئ والدرر شاعر الحب والتصوف والجمال "التجاني يوسف بشير" أنه كان فلتة زمانه "عميق العبارة ولكن مصيبة" "التجاني أنه عاش وسط قوم كل مؤهلاتهم حفظ المتون" والحواشى يملاون عقولهم بالمعلومات "القشور" يتميزون بضحالة الفكر انهم اعداء التجديد والنبوغ كان التجاني من ضحايا تلك العقول المتحجزة وحينما تفتقت عبقريته على مسرح منتدى المعهد العلمي أمدرمان ورسم بالكلمات صورا زاهيات موشحة بعيون الشعر والذي يتجسد في ثنايا كلماته الجمال اشتط الجهلاء ولم يجدوا راحة لعقولهم ضحلة التفكير الا في اسكات هذه الانغام الحالمة والتي كانت تشنف الاذان وتطرب المسامع والافئدة وطردها من ساحة المعهد العلمي ولفظها الى الشارع وهو يردد: يامعهدى ولئن حفظت صنعيه... فانا أبن سرحته التي غنى به.. طردوه والقوا به في خضم الشارع المتلاطم الإمواج من مختلف الوان البشر وكاد يغرق ويضيع مخزون الاداب والفنون لولا أن تلقفته أيدي ادباء مصر والذين اكتشفوا بمقدرتهم العلمية والادبية هذا الكنز الذي لاتجارى اعماله وسطروا على صفحات "جرائدهم" اكتشافهم لفنان مبدع من جنوبالوادي وعندئذ هرع السودانيون صوب مصر ليرجعوا الشاعر التجاني يوسف بشير الى وطنه السودان ولكن للاسف كان ذلك بعد فوات الاوان لقد أغتلنا الابداع حيث اصيب بمرض الهم والفقر والذي ظل ينهش صدره حتي فارق الحياة. ودونكم أيها القارئ الكريم قصة أخري تؤكد عدم ثقتنا في مبدعينا القصة تبدأ حينما يقوم الفنان السوداني المبدع عبد الكريم الكابلي بتلحين رائعة ابى الفراس الحمداني "أراك عصى المدع شيمتك الصبر" والتي سبق أن لحنتها وأطربت بها المسامع العربية كوكب الشرق أم كثلوم لقد استنكر وأستكثر نقادنا أن يعارض الكابلي كوكب الشرق وبدلا من تشجيعهم لهذا الانجاز الفني العظيم سلوا الاقلام من إغمادها وكادوا يقطعون الكابلي اربا اربا وامطروه بوابل من عبارات الهجاء لا لشئ إلا لانه "تجاسر" وحاول أن يجاري سيدة الغناء العربي ولولا أن الكابلي عملاق وصخرة صماء صامدة أمام العواصف الهوجاء لانهار من كثرة اللطم ولكنه لم يلن ولم يهن بل ثبت كالطود الشامخ وتمادى في مشواره الفني حتي تغنى "بلحنه" أمام كوكب الشرق التي ابدت اعجابها واعترفت بادائه المتميز ولكم دمرنا المبدعين في مختلف ضروب الحياة! حيث لم توفر لهم أسباب النجاح ولكم وضعنا العراقيل أمامهم حتي قتلنا التوثب في نفوس الاجيال الواعدة وادخلنا اليأس في نفوسهم؟ ولنتساءل مادهانا؟ وما الذي جعلنا لا نتباهي برموزنا وعباقرتنا؟ وما الذي حدا بنا أن نلهث وراء الاخرين نروج لبضاعتهم وبلادنا تعج بالعمالقة والعقول المبتكرة في كل ضروب الحياة؟ والكابلي فنان ارتاد باعماله الثريا لينظر للاخرين من "عل" ولولا عزيمته الفولاذية لالحقه الحاقدون بشاعر الجمال "التجاني يوسف بشير" والذي طرد من وطنه لا لشئ الا لان علماء ذلك الزمان لم يستوعبوا المعاني العميقة لشعره والكابلي ورث الغناء عن والده "عبد العزيز الكابلي" وعبد العزيز كان صديقا للشاعر السوداني الموهوب محمد أحمد محجوب حيث كان المحجوب قاضيا ببورتسودان وعبد العزيز من مؤسسي الرابطة الادبية بسواكن وكان المحجوب يصف عبد العزيز الكابلي قائلا "أن عبد العزيز الكابلي" حينما يتحدث اليك لكأنما يغني" اشارة لجمال نغمات صوته وهو يتحدث وانتقاؤه للعبارات المموسقة وليستمع القارئ للأستاذ عبد الكريم الكابلي "أن تهيأت له السانحة" وهو يتحدث فأنه شبل من ذاك الاسد تجذبك عباراته المنمقة وتطربك وتحلق بك من سماوات سحر الكلمة وعطرها ولولا مقدرات عبد الكريم الكابلي وقوة شخصيته لهزمه الحاقدون ولاغتالوا الابداع في نفسه ولألحقوه بسلفه شاعر الجمال التجاني يوسف بشير ولطردوه من وطنه وهو يردد: أحبك ياوطني القومة ليك ياوطني.