المشكلة ليست في السودان وحده بل هو أفضل من غيره ولكن الدعاية الغربية تجعل (الجراح) في السودان أذى جسيما وقتلا وتمثيلا بالجثة، وتجعلها في الدول (المرضي عنها) مجرد خدوش طفيفة تستحق المراهم والدراهم وورش العمل وتدريب الكوادر لاكتشاف "المشكلة الغامضة" التي هي في السودان واضحة ولا تحتاج (درس عصر)! على سبيل المثال قبل أسبوع حكم على صحفي بورندي بالسجن 25 سنة للتغطية في مناطق عسكرية ورفضت المحكمة تسليم المحامي نسخة من الحكم، وحكم على صحفيين سويديين في إثيوبيا بالسجن لأنهم ضبطوا مع متمردين في الأوغادين، لو حدث هذا في السودان لصارت القضية الأولى للاتحاد الأوربي ومجلس الأمن والأمم المتحدة والجامعة العربية ولكتب عشرات الكتاب السودانيين "التقدميين" إن ما حدث جريمة ضد الإنسانية. معظم الحكومات الإفريقية تشتكي من عدم جدوى الجزاءات والعقوبات المنصوص عليها في قوانين الإعلام ولذلك تلجأ للقوانين الأخرى ولكنها غير محقة (بالذات في السودان) لأن العقوبات في القوانين الأخرى أيضا لم تكن قوية يوما ما. أحيانا (بعد معركة طويلة) تنتهي القضايا إلى غرامة منخفضة وفي حالة عدم الدفع السجن عدة أشهر، وهو الأمر الذي يزيد الصحافي مجدا إلى مجده كما أن معاملة الصحافيين داخل السجن ذاتها تشكل تحديا للسلطات لأنها متهمة دوما بإساءة معاملتهم. في تقديري تقوية قانون الإعلام خيار لا بديل له. ويبقى "الطريق الثالث" وهو نقل النص والجريمة والعقوبة لقانون الإعلام (بعد المعالجة) وبذلك يلغى عمليا سريان المواد من القوانين الأخرى (الجنائي – الأمن – العسكري– الإرهاب - إلخ ..) على الصحفيين، حتى قانون الإجراءات الجنائية ينحسر عمله ولا ينتهي وذلك لأن إجراءات الاستدعاء والقبض (صوري أو حقيقي) قد رحلت لقانون الإعلام. هذا الحل مرفوض من بعض الناشطين لأنه يحيل قانون الإعلام إلى قانون (عقوبات) وهو من المفترض أن يكون قانون (حماية) وهو مرفوض أيضا من الحكومات التي تريد أن تتعامل مع (المهددات الأمنية) عبر الأجهزة الأمنية مباشرة دون واسطة وذلك لتعزيز مفهوم (الهيبة)، الأمر الذي يختصر لها الإجراءات، كما أن سلطانها بالتعليمات المباشرة يجعل تدخلها سريعا وفعّالا بدلا عن اللجوء كل مرة إلى ترتيبات قانونية لتفعل ما تريد. كثير من الناشطين الحقوقيين أيضا يرفضون المسئولية الجنائية مطلقا ويشددون على المسئولية المدنية التي تنتهي إلى الغرامة والتعويض المالي ولا يدخل الصحافي السجن إلا في حالة الإخفاق في السداد، وهذا الحل بالرغم من انحيازه الظاهري للصحافة والصحافيين إلا أنه يمنح (رؤوس الأموال) والحكومات ذاتها وسيلة للسيطرة عبر تميزها المالي ومقدرتها على حماية من تريد بسداد تعويضاته وغراماتها وترك من تريد ليواجه مصيرا قاسيا. هذا وغيره من الانتقادات يشكل حواجز شاهقة أمام تغيير المسئولية الجنائية ويفتح الباب لاجتهادات جديدة من ضمنها (المسئولية الهجين) فهي مسئولية جنائية في قضايا ومسئولية مدنية في أخرى، والإجراءات في كلا الحالتين مدنية لا تدخل الصحافيين السجون بعد نشر المادة الصحفية مباشرة ولكنها يمكن أن تحظر عليهم نشر مواد متعلقة بالملف موضوع النزاع وذلك لسببين نفصلهما الحلقة القادمة.