عقب توقيع الاتفاق الإطاري بين (نافع عقار) في أديس أبابا في العام الماضي كان القيادي في حزب المؤتمر الوطني ووزير الإعلام وقتها د. كمال عبيد بعد ساعات من اعتماد الاتفاق يقدم عبر الهاتف مع (السوداني) مرافعة قوية عن ذلك الاتفاق، وفي منتصف ظهر اليوم الثاني والطائرة الرئاسية تهبط مطار الخرطوم حاملة في جوفها الموقعين على الاتفاق الإطاري وأعضاء وفدهم المفاوض كان عبيد يهمس في أذن مساعد الرئيس ونائب رئيس حزب المؤتمر الوطني د. نافع على نافع ناقلاً له الرفض الرسمي لذلك الاتفاق. حينما تدور الأيام ويقلب الرجل شريط تلك الأحداث فإنه لم يتوقع أن تكلفة قيادة حزبه بقيادة ملف التفاوض والحوار مع قطاع الشمال بالحركة الشعبية المقرر انطلاقها بالعاصمة الأثيوبية أديس أبابا اليوم، وهو ما سيجعله يتحسس موضع قدمه جيداً حتى لا ينزلق في أتون مواجهة داخلية مع قيادة حزبه تحمله مسؤولية أي تنازلات يتم تقديمها لقطاع الشمال، وفي ذات الوقت فإنه أكثر من غيره يعلم أن المهمة التي كلف بها ليست لإقرار إجراءات استسلام سيعلن فيها قطاع الشمال رضوخه ونزوله عن كل الشروط الحكومية التي سيضعها الوفد الحكومي على الطاولة، وإنما تهدف بقدر الإمكان تقليل الخسائر التي ستترتب على الجانب الحكومي جراء اتفاقه مع قطاع الشمال. (1) (تانغو) مختلف يقول خبراء التفاوض إن الذكاء الحاد في حد ذاته لا يعد دليلاً على درجة المهارة المحتملة للشخص في عملية التفاوض، ويرون أن أهمية التركيز السريع والوعي بنقاط جديدة بصورة سريعة مسألة مهمة لمن يقود التفاوض لكونها تمكن المفاوض من تحديد درجة الاستجابة باستخدام الأسلوب المناسب، ويشير ذات خبراء علم التفاوض إلى أن منزلة الشخص في مجتمعه والخلفية التعليمية الجيدة لا تمثل ضمانة في عملية نجاح المفاوض. وبالنظر لتجربة د. كمال عبيد فإنه وباستثناءات قليلة ومساهمات نادرة لم يخوض تجربة تفاوضية كبيرة مقارنة بنظيره الأمين العام للحركة الشعبية قطاع الشمال ياسر عرمان الذي سيشكل نداً محتملاً للدكتور كمال عبيد والذي كان أحد أعضاء الوفد التفاوضي للحركة الشعبية في مفاوضات نيفاشا وأحد الذين عملوا على تطبيق اتفاقية نيفاشا برغم ماتصفه به قيادات المؤتمر الوطني وعلى رأسهم كمال عبيد بأنه من أكثر الذين يجيدون صناعة الأزمات، كما أنه يمتلك قدرة عالية على استفزاز الخصم وإرهاقه وجره لمعارك انصرافية، الأمر الذي يمكن أن يشكل نزاعاً على أهم الخصائص الموضوعية للتفاوض وهي المعرفة النفسية لكل طرف. الاتجاه الغالب الذي ستمضي نحوه العملية التفاوضية تشير إلى أن كمال عبيد وياسر عرمان سيلعبان الدور الحيوي في تطبيق الاتفاق حال التوصل إليه وهذا مايمكن أن يعيد للأذهان تجربة تطبيق اتفاقية السلام الشامل التي شهدت ملاسنات حادة بينهما كان مسرحها البرلمان وصفحات الصحف، كل ينطلق من موقفه فالبنسبة لعبيد يعد أكثر قيادات حزب المؤتمر الوطني التي ترفض مجرد مناقشة مشروع السودان الجديد، أما عرمان الذي لا يكل بنانه من الطرق على مأزق الخصم وإصراره على قيام مشروعه للسودان الجديد على أنقاضه يمكن أن يقود عبيد لترك تفاصيل تطبيق الملف إذ إن طبيعة عبيد الشخصية وخلفيته الأكاديمية لا تحتمل الصراع السياسي الطويل، ويبدو أن كيمياء الرجلين ستولد تنافراً يجعل من رقصة التانغو بينهما على طاولة التفاوض وأرضية التطبيق أمراً للحقيقية أقرب. (2) رسائل في بريد الحركة يمكن وصف اختيار عبيد من قبل الحكومة بأنها أرادت إرباك الوساطة قبل خصومها وكأنها أرادت القول أن الاستراتيجية والحديث مختلفان مع قطاع الشمال في هذه المرة، ولذلك قررت الدفع برئيس وفد له مواصفات خاصة، رجل موصوف لدى عتاة قادة الحركة الشعبية،أنه أصولي متشدد، يرفض إعطاء أخاه "حقنة"، غير مريح في التعامل، سلفي التفكير والتوجه في بعض الأحيان، لا يتحرك من مواقفه لمنطقة وسطى. وإن بدا عبيد كذلك لخصومه في الحركة الشعبية أو حتى الوساطة الإفريقية ومن بعدهم للمراقبين داخل وخارج الحزب فإن المؤتمر الوطني يبدو وكأنه أراد إحداث عنصر مفاجأة حين دفع به، وتبدو خطوة الحزب الحاكم هذه لإثارة كثير من الغموض والضباب الذي تستحيل فيه رؤية فوق وتحت طاولات أديس أبابا، وتبيان ماسيجري هناك أهو تكتيكي بغطاء استراتيجي، أم أنه هدف محوري تسعى الحكومة لاقتناصه بغرض تغيير المعادلات بالبلاد أو ارتياباً من مآلات ماسيفرزه الاستعصام برفض التفاوض مع الحركة الشمالية وانعكاساته على تطور الصراع مع دولة الجنوب والمواجهة الدولية المحتملة. بجانب ذلك قد يفسر الدفع بعبيد باعتباره قيادي بارز موفور الثقة من قبل القيادة السياسية وهو مايمكن تفسيره من زاوية أخرى حضوراً من شأنه تيسير عملية اتخاذ القرارات الكبيرة بين رئيس الوفد وأعضاء الوفد الحكومي المفاوض والذين يمتلكون قدرات تفاوضية وسياسية عالية بجانب إلمامهم الدقيق بجذور الخلاف ومنطلقات تفكير الطرف الآخر. (3) تهيئة أرضية منذ توقيع اتفاق (نافع عقار) وماتلاه من أحداث وموجات رفض ربما كان د. كمال عبيد يدرك أن حزبه مضى لاتفاق لم تهيأ أرضية مناسبة ومناخ مواتٍ لقبوله، حيث خيمت على المناخ العام للبلاد أجواء القطيعة وحملات الكراهية التي أثرت كثيراً على أجواء الطائرة التي حملت الاتفاق الإطاري فهبطت في أجواء غير صالحة، ربما يعزز ذلك حديثه بمنزل مساعد رئيس الجمهورية د. جلال الدقير أمس الأول حيث عمد وهو يخاطب عدداً من قادة العمل الإعلامي لخلق أجواء إيجابية تتقبل ما سوف يأتي به من مدينة النبع الساخن "أديس أبابا" إلى عاصمة (اللاءات) الخرطوم، إذ قال إنه أجرى خلال الأيام الماضية مشاورات مكثفة مع القوى السياسية تركزت حول الاستماع لرؤيتها لمفاوضات الحكومة مع قطاع الشمال ومضى قائلاً "يجب أن لا يفتكر الناس أن المفاوضات ستكون بذات الوضعية القديمة". وأشار إلى أن وفده سوف يستمع لمطالب ورؤية الطرف الآخر، ودعا رئيس الوفد الحكومي الصحافة الوطنية للتعامل بدقة وشفافية مع كل مايرد من معلومات عن العملية التفاوضية. وجاءت تصريحات د. كمال عبيد قبل مغادرته البلاد فجر أمس (الجمعة) عقب تصريحات نائب رئيس الوطني لشؤون الحزب د. نافع علي نافع بعد اجتماع المكتب القيادي نهاية الأسبوع والتي قال فيها "إن قيادي الوطني أكد على ضرورة الوصول لحل سياسي في المنطقتين عبر الحوار"، واعتبر نافع أن الحل السياسي هو الذي يفضي لتحقيق الاستقرار الشامل في المنطقتين. (4) (ديامي) برفقة طه ولد د. كمال محمد عبيد بريف مركز كريمة في الولاية الشمالية عام 1951 ثم انتقل وأسرته إلى الخرطوم حيث نشأ وترعرع في حي "الديم" والذي شهد أيضاً دراسته للمراحل التعليمية، وهي الفترة التي تزامل فيها مع النائب الأول لرئيس الجمهورية الحالي الأستاذ علي عثمان محمد طه، والتحق بعدها بجامعة القاهرة فرع الخرطوم وتخرج فيها أواخر سبعينات القرن الماضي بعد أن درس الاقتصاد، ثم نال من بعد ذلك دبلوم الاقتصاد الإسلامي في جامعة أم درمان الإسلامية وماجستير أصول الفقه الإسلامي ثم درجة الدكتوراه والتي أعدها عن العلاقات السودانية التشادية. (5) مبعوث دعوي عمل عبيد بالتعليم العام ثم التحق بوزارة العمل أواخر سبعينيات القرن الماضي، ثم اتجه بعدها للمجال الدعوي وكان من مؤسسي المركز الإسلامي الإفريقي بجامعة أفريقيا العالمية وشغل رئاسته في الفترة من (1991 وحتى 1998م) حيث أسس مجلة دراسات دعوية وشغل رئاسة هيئة تحريرها ثم عمل أستاذاً جامعياً مختصاً في "أصول الفقه" وقدم في تلك الفترة مجهوداً أكاديمياً وفكرياً كبيراً وتصدرت المكتبات عناوين كتبه ومنها: (تقويم أداء وكسب الإنقاذ الوطني خلال عشرة أعوام)،( رسالة إلى الشباب المسلم في إفريقيا)، (العلاقات السودانية التشادية وأثرها في نشر الثقافة العربية والإسلامية). لم ينقطع خلال تلك الفترة عن العمل الخاص بالحركة الإسلامية إذ كلف الاتصال بالحركات الإسلامية العالمية بغرض بناء تحالفات استراتيجية وتنسيقية مع تلك الحركات تعين على نشر الصحوة الإسلامية، كما عرف في تلك الفترة كرجل صاحب فكر متقدم بخاصة في ما اتصل بتنسيق العمل الإسلامي في السودان والمؤسسات الإسلامية لمنظمات الدعوة. (6) الصعود إلى أعلى حملت تلك التجارب التنظيمية التي برع في تحقيق نجاحاتها الرجل لتراتيبية مرموقة في صفوف قيادات الوطني بعد أن تولي أمانة العلاقات الخارجية في الحزب، وهو أول تكليف تنظيمي عالي المستوى يحظى به الرجل، وقد تزامن توليه المنصب الرفيع بالحزب مع مؤثرات خارجية وأحداث داخلية كانت شديدة التأثير على مسيرة الحكم بالبلاد، فكانت من أهم نجاحاته صياغة تحالف استراتيجي بين المؤتمر الوطني والحزب الشيوعي الصيني وهي علاقة قادت لتدفق رساميل واستثمارات صينية أضحت تزداد عاماً بعد عام. ويذكر أن أهم حدث داخلي صعد بالرجل وعزز من ثقة القيادة فيه تصديه للحملة الإعلامية الشرسة إبان فترة تصاعد العنف المسلح في دارفور ورفض الحكومة للقوات الدولية والقرار "1706" – فيما بعد حظي الرجل بحضوره الإعلامي ومرافعاته الجريئة بإشادة الرئيس البشير - ليجد نفسه عقب إشادة الرئيس البشير به خارج أسوار أمانة العلاقات الخارجية حيث عين أميناً للإعلام وناطقاً رسمياً باسم الحزب ثم وزيراً للدولة بوزارة الإعلام في نفس الوقت ليشغل عقب الانفصال منصب وزير الإعلام والناطق الرسمي باسم الحكومة، وهو المنصب الذي تخلى عنه طواعية عقب مطالبته لقيادات حزبه بتفضيله العودة إلى وظيفته الجامعية على المنصب الوزاري. ظل الرجل داخل المؤتمر الوطني يلتزم منهجاً يبدو غريباً بعض الشيء في العمل التنظيمي حيث يعتمد نظام الدوائر "الضيقة" كما أن روحه تبدو وكأنها خالية من القدرة على "العمل الجماعي" فهو انطوائي بدرجة عالية، نادر الحضور في المناسبات العامة والخاصة، أفندي يغلق باب غرفته عليه عقب صلاة العشاء ويندس بين الكتب.