هذا أفقد الولاياتالمتحدة معظم أوراقها بالسودان لماذا كان باقان اموم مصرا على إشراك مراقبين للتفاوض؟ هل فقدت الولاياتالمتحدة زمام السيطرة على الأوضاع في المنطقة؟ عندما احتشد القادة الأفارقة في اجتماعاتهم خلف الأبواب المغلقة بفندق "شيراتون" الفخم بأديس أبابا لمحاولة منع تجدد الحرب مرة أخرى بين الشمال والجنوب ظلت الولاياتالمتحدة والدبلوماسيون الغربيون في بهو الفندق في انتظار ما ستسفر عنه الاجتماعات من جديد، مما جعل صحيفة (كنساس سيتي) الأمريكية تكتب تلمح إلى أن المباحثات حول القضايا السودانية صارت شأنا أفريقيا، الأمر الذي اعتبرته الصحيفة تغييرا ملحوظا في الساحة السياسية وخروجا حادا عن مجريات الأحداث التي كانت قبل سنوات قليلة مضت تسيطر عليها الولاياتالمتحدة الحليف الأقوى لدولة الجنوب خلال فترة الحرب بين الشمال والجنوب حتى توقيع اتفاقية السلام الشامل التي وضعت حدا لانفصال الجنوب وتكوين دولته الوليدة. أكثر من وجه وقالت صحيفة (كنساس ستي) إن تراجع الولاياتالمتحدة للمقاعد الخلفية في المفاوضات السودانية يفسر على أكثر من وجه خاصة أنه يعكس نهج إدارة أوباما في التعامل مع القضايا السودانية بالإضافة للجليد الذي اتسمت به العلاقة بين واشنطون والخرطوم التي ظلت تراوح مكانها بين الفتور والجمود وكانت نتيجتها أن تحولت الدول الغربية التي كانت تسيطر على السياسة السودانية سنوات عدة لمراقبين للمفاوضات، مشيرة إلى أن مفاوضات أديس أبابا كانت بقيادة الاتحاد الأفريقي ويشرف عليها الرئيس السابق لدولة جنوب أفريقيا ثابو مبيكي كذلك انضم لطاولة المفاوضات المبعوث الخاص للأمم المتحدة هايلي منقريوس الذي تنحدر أصوله الأفريقية من دولة أرتريا، مشيرا لفشل المحادثات في إحراز أي تقدم بشأن عائدات النفط التي تعتبر القضية الأبرز خلال المفاوضات، لافتين للدور المتنامي للقادة الأفارقة في إدارة الصراع بين دولتي السودان محذرين من أن يتحول السودان إلى صومال أخرى. وأشارت الصحيفة إلى أنه في كلا الدولتين – السودان والصومال – استمرت الدول الغربية في تمويل المحادثات والسياسات الأقليمية التي اتخذ فيها القادة الأفارقة المقاعد الأساسية، وحملت الصحيفة مسئولية استمرار الصراع بالدولتين لقادة الدول الأفريقية ووصفت نهج الدول الأفريقية في حل الصراعات بأنه لا يعدو أن يكون مجرد شعارات ليس إلا. وأشارت الصحيفة إلى أن كلا من بريطانيا والنرويج والاتحاد الأوربي بعثوا وفودا رفيعة المستوى لحضور المفاوضات إلا أنهم استُبعدوا من الاجتماع فقضوا معظم وقتهم في بهو الفندق الفخم يحتسون القهوة والمياه المعدنية في انتظار ما سيسفر عنه الاجتماع، وقالت الوفود إنه على الرغم من غيابها عن طاولة المفاوضات إلا أن وجودها على هامش الاجتماعات ساعد على الضغط من أجل السلام، مضيفة أن كلا من الولاياتالمتحدة وبريطانيا والنرويج أصدرت بيانا حثت فيه الأطراف على إجراء محادثات أخرى في أقرب وقت مبدية تأييدها لدور ثابو مبيكي وسيطا، وألمحت الصحيفة لغياب المبعوث الأمريكي الخاص برنستون ليمان عن المفاوضات على الرغم من مشاركته في جولات سابقة. ويكتشف وزير الدولة برئاسة الجمهورية وكبير المفاوضين إدريس محمد عبد القادر أن السودان رفض بشدة مشاركة مراقبي الغرب في التفاوض حتى من خلف الطاولات، وقال عبد القادر ل(السوداني) إن رفضهم امتد لمراقبي الدول الغربية وممثلي شراكات النفط طرفا ثالثا، خاصة بعد أن اشترط رئيس التفاوض الجنوبي باقان اموم للتوقيع على اتفاق الترتيبات المالية الانتقالية عدم أخذ الخرطوم نفط الجنوب حتى الحادي والثلاثين من يناير القادم، علاوة على حرص باقان على وجود ممثلي الشركات طرفا ثالثا. ويرى مراقبون أن خطوة اموم ذكية وترمي لخلق مواجهة مباشرة بين السودان وشركات النفط، بجانب أنه يصب في خانة الابتزاز والتخويف لتلك الشركات باعتبار أن مصالحها الكبرى مع جوبا وليس الخرطوم. وينوه المحللون إلى أن معظم الشركات النفطية تحمل الجنسية الصينية مما يجعل الحليفين (الخرطوموبكين) في مواجهة بعضهما. ممنوع من الحضور ونبهت صحيفة (كنساس ستي) إلى أن ممثل الولاياتالمتحدة الذي سمح له بمراقبة الاجتماعات منع من حضور الجلسات الخاصة بالنفط الذي يعتبر أهم القضايا الخلافية، من جانبها قالت متحدثة السفارة الأمريكيةبجوبا فيدرا جوين إن المبعوث الامريكي ذهب لواشنطون للاجتماع بمسئولي البيت الأبيض ولكنه على علم بما يجري بالاجتماعات من خلال ممثله واتصالاته بالاتحاد الأفريقي، في ذات الأثناء استبعد المراقبون مشاركة ليمان ضمن الاجتماعات حتى في حال وجوده نسبة للإجراءات الصارمة التي فرضها الاتحاد الأفريقي وموقف الحكومة السودانية الذي يرغب في إبعاد الغرب عن طاولة المفاوضات، واعتبرت الصحيفة أن هذا تحول كبير مقارنة بعدة سنوات سابقة صاغت فيها الولاياتالمتحدة مسودة اتفاقية السلام الشامل التي أنهت عقدين من الحرب الأهلية بالسودان، وقال مسئول مطلع للصحيفة المعنية -فضل حجب اسمه- إن الولاياتالمتحدة فقدت معظم نفوذها بالسودان خاصة أن المسئولين بالخرطوم يشعرون بمرارة عميقة إزاء الاتفاقية التي دعمتها الولاياتالمتحدة وكانت نتيجتها أن فقد السودان ثلث أراضيه، وأشار المراقبون لفشل المبادرات التي طرحتها الولاياتالمتحدة لتطبيع العلاقات مع الخرطوم بسبب استجابة الحكومة للتحديات الداخلية، ففي عام 2005 عقب التوقيع على اتفاقية السلام رفضت إدارة بوش تطبيع العلاقات مع السودان بسبب أزمة دارفور وفي مطلع العام الحالي قادت إدارة أوباما تحركات في اتجاه تحسين العلاقات ولكن تجدد القتال بالمناطق الحدودية بين الشمال والجنوب حال دون تواصلها، وقال مراقبون للشأن السوداني إن العناصر المعتدلة داخل النظام الحاكم التي كانت تنادي بتحسين العلاقات مع الولاياتالمتحدة بعضها استُبعد وعناصر أخرى التزمت الصمت، وبفضل الشركاء الجدد من آسيا وأفريقيا لم يعد السودان حاليا مضطرا لقبول وساطة الولاياتالمتحدة. ويرى المحلل السياسي د. حمد عمر حاوي أنه منذ الربيع العربي بدأت تضعف القوة الامريكية على المنطقة والعالم، مما قاد لتمرد عدد من الدول عليها، ويضيف حاوي في حديثه ل(السوداني): وأصبحت الدول أكثر وعيا وتمسكا بزمام أمرها، والعراق وافغانستان ضعفا لأقصى حد. غير أن حاوي يحذر من الاعتقاد بضعف الدور الامريكي في المنطقة، ويقول إن هذا يقوي موقف جوبا لمساندة الإدارة الامريكية، ويزيد أيضا أن الضعف الامريكي حقيقة ولكن يجب ألا يغتر به السودان وكل الدول التي تعاني من نزاعات، ولديها مقدرة على لعب أدوار فاعلة في السودان. كسر الصمت وكانت بكين التي لديها الكثير من الأشياء على المحك بسبب صفقات النفط قد أرسلت مبعوثا رفيع المستوي خلال الأسبوع الماضي للضغط من أجل التوصل لاتفاق بين الطرفين عقب انهيار المحادثات وكان من اللافت غيابها بشكل واضح عن هذه المحادثات إلا أنها كسرت حاجز الصمت عندما أوقفت الخرطوم شحنة من النفط خاصة بشركة صينية فحث وزير خارجيتها الطرفين بالمرونة وممارسة ضبط النفس، وقالت الصحيفة إن قادة الاتحاد الأفريقي لا زالوا يبحثون عن قصة نجاح دبلوماسي خاصة بعد تجاهل معارضتهم لتدخل حلف شمال الأطلسي في ليبيا وفشل جهودهم لإنهاء الأزمة التي أعقبت الانتخابات بساحل العاج، ووصفت الصحيفة سير المحادثات بين الشمال والجنوب بأنها لا تمضي نحو الأفضل وأنها لم تتمكن من إحداث اختراق يذكر منذ انفصال الجنوب ولكن على الرغم من ذلك فالكثير من المراقبين يؤمنون على أن دبلوماسية ثابو مبيكي هي الأمل الوحيد في إرجاع الطرفين لطاولة المفاوضات. تقول أستاذة العلوم السياسية د. إكرام محمد صالح إن الحكومة السودانية (شبعت) من الوعود الامريكية في إطار الحوافز وسياسة العصا والجزرة ووصلت مرحلة التخمة، حتى المواطن البسيط أصبح لا تحركه هذه الوعود، والدور الامريكي في القضايا العالقة لا يستطيع أن يناور في القضايا العالقة تحتاح لمعايير تحكيم قانوني دولي وليست مسائل سياسية فعلى سبيل المثال (نقل النفط). وتنوه إكرام إلى أن مساحة المناورات السياسية تقلصت لأقصى حد، الخرطوم تحتكم للقوانين الدولية وقدمت بعض التنازلات، بينما تريده أن يقدم مزيدا من التنازلات للجنوب خدمة للمصالح الامريكية، وتزيد إكرام أن الخرطوم أصبحت لا تتحسب كثيرا للدور الامريكي، طالما أن الأمر غير مجدٍ. وتمضي إكرام في حديثها وتشير لقرار الإدارة الأمريكية الأخير القاضي برفع العقوبات على جنوب السودان، حيث أعلن مكتب الرقابة على الأصول الأجنبية في وزارة الخزانة الاميركية «اوفاك» عن أن الولاياتالمتحدة بدأت تخفف العقوبات عن جنوب السودان للسماح بالاستثمار في القطاع النفطي لتلك الدولة المستقلة في التاسع من يوليو الماضي حيث قررت واشنطن رفع جزء من القيود الاقتصادية المفروضة على هذا البلد. وأصدر «اوفاك» ترخيصين عامين لتنفيذ هذا التغيير في السياسة بعد نحو عام من تصويت الناخبين في جنوب السودان لصالح الاستقلال. وذكر:«على هذا النحو لم يعد جنوب السودان خاضعا لإجراءات العقوبات السودانية». وشدد مكتب الرقابة الأميركي على أن هذا التغيير في السياسة لا يعني أن بإمكان الشركات الاميركية إقامة أنشطة في قطاع النفط السوداني، كما لا يمكن للشركات المشاركة في تكرير النفط الخام السوداني الجنوبي في مصاف تقع في السودان. وأضاف أن الشركات الاميركية حرة الآن في تصدير معدات لاستخدامها في قطاع النفط بجنوب السودان، ويمكن نقل النفط والمعدات الأخرى عبر السودان. خدمة المصالح وتشير د. إكرام إلى أن القرارات الامريكية الأخيرة سعى لخدمتها بعيدا عن مصالح الجنوب، وتشدد إكرام على أن موقف السودان بات أقوى من أي وقت مضى بعد أن أصبحت القضايا المطروحة بين الطرفين مربوطة بمعايير دولية وسوابق قانونية لا تتوفر معها معايير المناورة السياسية، وترى إكرام أن الخرطوم ستتعرض في الفترة القادمة لضغوط كثيرة من مجلس الأمن وتأليب الرأي العام الدولي والداخلي لخلق مزيد من الصراعات لتأزيم الأوضاع. وتختتم إكرام حديثها بأن على حكومة الجنوب أن تلتفت لمصلحتها في التعاون مع الشمال، خاصة أن الغرب بات يعاني من أزمات اقتصادية لا تمكنه من الالتفات لدعم وتطوير دولة الجنوب.