دخلت الصين على خط الوساطة بين السودان وجنوب السودان ووصل الأمر بالمبعوث الصيني لوي قويجن الى الطلب الى البلدين التوصل الى إتفاق بخصوص ملف النفط قبل أعياد الكريسماس، الأمر الذي يعني عمليا أن يكون الاجتماع المقرر له العشرين من هذا الشهر النهائي والحاسم. والطلب بهذا يبدو متفائلا كون جدول اللقاءات الماراثونية التي كان يفترض أن تبدأ في جوبا يوم السبت الماضي لم تنطلق، ثم أن الخطوة الصينية هذه تعيد الى الذاكرة ما أقترحه المبعوث الأمريكي الى السودان برنستون ليمان في منتصف يوليو الماضي من ضرورة التوصل الى ترتيبات مؤقتة بخصوص النفط بنهاية يوليو اذا تعذر الوصول الى حلول نهائية. حديث ليمان لم يكن تصريحات صحفية عابرة، وأنما أدلى بها في إطار بيان له أمام أحدى لجان الكونجرس وكان الى جانبه جون كيري رئيس لجنة العلاقات الخارجية في الكونجرس وجوني كارسون مسؤول الشؤون الأفريقية في الخارجية الأمريكية، لكن رغم هذا الثقل الرسمي، الا انه من الواضح ان يوليو مر ومعه أربعة شهور أخرى ولم يحدث شىء يذكر، بل ان الوضع ازداد سوءا. فجنوب السودان قام بالسيطرة على أسهم شركة "سودابت" وتحويلها لصالحه، والسودان رد انه سيقوم بأخذ نصيبه عينا لمقابلة كلفة رسوم نقل الخام الجنوبي عبر خط الأنابيب السوداني. والمناخ أصبح مفتوحا لتسديد الضربات المباشرة والضربات المضادة وأحيانا تحت الحزام. الصين قد تكون في وضع أفضل عند توسطها بين البلدين بسبب مصلحتها المباشرة المتمثلة في إستثماراتها في القطاع النفطي في البلدين ووجود الاحتياطيات في الجنوب ومرافق العمليات النهائية في السودان، الأمر الذي يعطيها الفرصة لممارسة شىء من الضغط وأهم من هذا البروز وسيطا محايدا، وهو ما لم يتوفر للولايات المتحدة. والأمريكان لا يخفون تعاطفهم وانحيازهم للجنوب. وفي أول إجتماع لبدء التوسط بين حكومة السودان والحركة الشعبية لإطلاق عملية السلام في العام 2001 أبلغ مساعد وزير الخارجية الأمريكي وقتها والتر كانشتنير المسؤولين السودانيين ان واشنطون ستكون متعاطفة مع الجنوب ومن ثم الحركة الشعبية على أساس انها الطرف الذي يعاني من ظلم كبير. وطبعا ليس هذا هو السبب الوحيد، فأهم منه ان الحركة نجحت في مد خطوطها مع جماعات الضغط خاصة اليمين المسيحي والنواب السود في مجلسي النواب والشيوخ والعديد من منظمات المجتمع المدني وكلها تمثل ثقلا إنتخابيا لا يمكن لأية أدارة تجاهله. وأعطى هذا الوضع الحركة ثقة بالنفس للدرجة التي مكنتها من تغيير المواقف الرسمية مثل الموقف من حق تقرير المصير. ففي تقريره الذي قدمه الى الرئيس جورج بوش في أبريل 2002 إقترح المبعوث جون دانفورث أن يقتصر ذلك الحق على سلطات أوسع والا ينتهي بالانفصال مع وجود ضمانات كي لا تتغول الخرطوم على جوبا كما حدث في حالة إتفاقية أديس أبابا الشهيرة، وأعقب ذلك بتصريحه الشهير "إن سودانا واحدا يكفي" في إشارة الى المتاعب التي يعاني منها السودان، فكيف الأمر مع سودانين لكل مشاكله الخاصة ومع الطرف الآخر، وهو ما بدأ يتحقق وأشار اليه ليمان في تصريحاته الشهيرة لصحيفة "الشرق الأوسط" عن عدم رغبة واشنطون في تغيير النظام وعدم مساندتها لفكرة إستخدام القوة قائلا انه يكفي واشنطون المشاكل الحالية التي تواجهها بشأن السودان، وانها لا تحتاج الى المزيد. لكن اقتراحات دانفورث وتوصيات الديبلوماسيين المحترفين تم ابتلاعها ورأينا كيف نشطت واشنطون الجمهورية وتلك الديمقراطية في السعي الحثيث لتنفيذ الانفصال وغض الطرف عن الخروقات التي شهدتها الانتخابات ومن بعدها الاستفتاء. ولهذا فملف النفط ينبغي التعامل معه في الاطار السياسي، لا المهني فقط. فمنطق المصلحة المشتركة كان سيدفع من البداية بالطرفين لتسوية القضايا العالقة والانطلاق منه لتناول بقية الملفات بما يقيم العلاقات على الأساس القويم في علاقات الدول وهو المصلحة المشتركة. عمليات الضربات المتبادلة دفعت بالمناخ بين البلدين الى إنتقال حالة عدم الثقة والشك التي ميزت الفترة الانتقالية الى مرحلة العداء المفتوح خاصة مع تصاعد الأحداث في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان، حيث تشعر جوبا بشىء من الالتزام الأخلاقي تجاه بعض مواطني الولايتين الذين حاربوا معها من قبل، ولم ينجح المؤتمر الوطني في نقل المعركة السياسية الى داخل حوش الحركة الشعبية بسبب تبنيها للخيار الانفصالي وتخليها عن حلفائها السابقين. الشعور المتنامي وسط الأغلبية من قيادات الجنوب الاتجاه للتضامن مع الحركة الشعبية في السودان وشعارها المرفوع لاسقاط النظام عبر البندقية وذلك على أساس انه مصدر القلاقل حتى داخل الجنوب وفي المنطقة عموما. وهذا الخط الذي يتسق مع دعوات متصاعدة داخل الولاياتالمتحدة يتعارض مع الخط الرسمي الذي يقوم على الخوف على الدولة الوليدة وأن تقوم الخرطوم بالرد عبر تصعيد لدعمها للجهات والمليشيات المتمردة في جنوب السودان. والمؤشرات بدأت في البروز. فالانتاج النفطي في الجنوب بدأ في التراجع لأسباب أمنية من ناحية ولأسباب أخرى تتعلق بالصيانة والعمالة الماهرة القادرة على التصدي للجوانب العملياتية في الصناعة النفطية، وأهم من ذلك التهديدات التي بدأ يطلقها الجنرال المتمرد جورج أثور ضد شركة توتال صاحبة الامتياز في مربع (ب) في ولاية جونقلي المضطربة وهجومه الكلامي على مقترحها مد خط أنابيب يرتبط بيوغندا ثم الى كينيا، الأمر الذي يمكن أن يسهم في التخفيف الكبير لحجم كلفة بناء خط أنابيب. يذكر هنا ان عمل شيفرون توقف بسبب هجوم على معسكرها لم تقف به حتى الحركة الشعبية، وإنما مجموعة محسوبة على الأنيانيا-2 كانت تسعى للانضمام الى الحركة. هل يمكن لتعاون أمريكي- صيني أن يحقق إختراقا في هذا الجانب كما إقترح وزير الخارجية علي كرتي؟ نظريا ذلك ممكن، لكن من الواضح ان الحسابات المحلية أصبح لها القدح المعلى في الممارسة السياسية ولو على حساب المصلحة العامة. وفي نهاية الأمر فاذا لم يستطع عنصر المصلحة المباشرة أن يدفع في إتجاه إتخاذ مواقف أكثر عقلانية، فإن التدخلات والضغوط الخارجية لن تجدي فتيلا. وفي النهاية فإن السودان منتج صغير لن يشكل غياب إمداداته فجوة لا يمكن تعويضها.