د. عبدالعظيم ميرغني ويَبْقَى من الحُكْمِ الأَحَادِيثُ وَالذِّكْرُ أَمَاوِيّ! إنَّ (الحكم) غَادٍ ورائِحٌ.. وَيَبْقَى مِنَ (الحكم) الأَحَادِيثُ وَالذِّكْرُ. هكذا ابتدر أبو الغابات كامل شوقي مداخلته في ورشة العمل التي أقيمت في إطار الاحتفال القومي بعيد الشجرة رقم 49 بحاضرة ولاية الجزيرة الخضراء واد مدني في الأسبوع المنصرم تحت شعار "بيئة مدرسية خضراء من أجل بيئة مدرسية خلاقة". وما عناه أبو الغابات باستشهاده (بتصرف) في بيت شعر حاتم الطائي الذي يقول فيه مخاطباً زوجه: أماويَّ! إنَّ المال غَادٍ ورائِحٌ وَيَبْقَى مِنَ المال الأَحَادِيثُ وَالذِّكْر، ما عناه أبو الغابات باستبداله المال بالحكم، هو أن ذاكرة التاريخ تسجل كل شاردة وواردة، وأنها لا تصدأ ولا تبيد، وأنها لا تجامل ولا تحابي ولا ترحم، وأنها تقول لمن أحسن قد أحسنت، ولمن أساء وأفسد قد أسأت وأفسدت. مما تحفظه ذاكرة التاريخ من محامد للحكم الاستعماري في السودان في مجال الغابات، اهتمامه بها وحرصه عليها بإصداره أول بيان لسياسة الغابات في السودان عام 1932 من مجلس الحاكم العام شخصياً، أمن فيها على قومية مورد الغابات وعلى عدم جواز مساس السلطات الإقليمية أو المحلية به إلا في حدود صلاحيات محددة أوكلت لها. وفي عهد الحكم الذاتي الذي سبق الاستقلال، حينما كان الوزير يعمل تحت إشراف المدير، يحفظ التاريخ للأميرالاي عبدالله بك خليل (وزير الزراعة في ذلك العهد) إرساله في عام 1946م أول بعثة للتعليم العالي في مجال الغابات لجامعة أدنبرة بالمملكة المتحدة وكان من بين مبعوثيها أولئك أبو الغابات كامل شوقي. وبقدر ما يحمد للوزير (السوداني) إرساله لتلك البعثة يحمد للمدير الإنجليزي أيضاً حرصه على إرسالها مع تباشير فجر الاستقلال لضمان تأمين إدارة مؤهلة علمياً للغابات عندما يحين الاستقلال، إذ كان معظم العاملين بالغابات وقتذاك هم من متقاعدي الجيش والشرطة. ويحمد التاريخ لفترة الديمقراطية الأولى بقيادة الزعيم الأزهري إكماله سودنة الغابات ومنحها في عام 1956 مقر رئاستها الرحب الفسيح الحالي بعد أن كانت إدارتها تقبع في ركن قصي من مبنى وزارة الزراعة الحالي. ثم قام حسن عوض الله (ثاني وزراء الزراعة السودانيين في العهد الوطني) بترقية قسم الغابات الذي كان يتبع لمصلحة الزراعة والغابات وجعله مصلحة مستقلة للغابات تتبع لوزارته. ويحمد التاريخ لحكومة الفريق عبود توسعها في البعثات الخارجية في مجال الغابات لكل أنحاء العالم (استراليا والمملكة المتحدة وباكستان) وترفيعها لمدرسة خبراء الغابات التي كانت تستوعب طلاب الأساس إلى كلية للغابات تستوعب طلاب الثانوي. وإصدارها لقانون إدارة المديريات لعام 1961م مؤيداً لقانون الغابات لسنة 1932. ويعتبر قانون 1961 من أفضل التشريعات في قسمة السلطات بين المركز والمديريات فيما يتعلق بالغابات لتميزه بالوضوح. ونتيجة لذلك شهد مرفق الغابات في أواخر الستينات تطوراً ملحوظا وتوسعاً وتنوعاً في مناشطه المركزية المختلفة وخدمة الأهداف القومية. هذا وقد كفل قانون 1961 لمدير الغابات عضوية كاملة في مجلس المديريات الذي كان يمثل المجلس الحاكم على مستوى المديريات. ويحمد التاريخ لحكومة الانتفاضة في عام 1985م إعادتها مسئولية إدارة موارد الغابات إلى السلطة القومية (المركزية)، بعد أن أدى الارتباك في تطبيق التشريعات المتناقضة والغامضة المتعلقة بالغابات خلال السبعينات والنصف الأول من الثمانينات لانهيار وتردٍ لموارد الغابات وضمور في عطائها وتسارع انحسار غطائها الشجري. كما أفرزت ممارسة تلك التشريعات آثارا ضارة بالعمل والعاملين الذين تعددت ولاءاتهم وتجزأت الكشوفات الموحدة بإدارة الغابات المركزية التي كانت تتم فيها تعييناتهم وتنقلاتهم وترقياتهم الشيء الذي كان يساعد علي مرونة حركة العمل وانضباط العاملين وتوفير المعلومات ومتابعة وترشيد ما يدور في محطات الغابات علي المستوى القومي. كما تم في عهد حكومة الانتفاضة مراجعة سياسة الغابات لسنة 1932 لتستوعب المفاهيم المستجدة في مجال الغابات. وبرزت ضمن إصلاحات انتفاضة 1985 فكرة إنشاء هيئة الغابات القومية المستقلة والتي قامت فعلياً في أواخر عهد حكومة الديمقراطية الثالثة برئاسة الإمام الصادق المهدي عام 1989م. وجاءت الإنقاذ لتقوم في فبراير 1990 بتفعيل قانون هيئة الغابات القومية، وإكمال بناء أجهزتها وإصدار لوائحها وميزانياتها التي قفزت من 20 مليون جنيه عام 89/90 إلى ما يقارب 40 مليار جنيه (بالقديم) حالياً، وتم إنشاء مبني جديد لرئاسة الهيئة يتناسب وحاجاتها. وأمنت الإنقاذ على قومية الثروة الغابية في المرسوم الدستوري الرابع عشر، وأولت الغابات والبيئة قدراً كبيراً من العناية في الإستراتيجية القومية الشاملة (1992-2002) بتبنيها لشعار التنمية المستدامة وبرفعها للهدف الإستراتيجي لحجز الغابات والموارد الطبيعية الأخرى نسبة 25% من مساحة البلاد. ثم جاء دستور السودان لعام 1998 لينص في موجهاته على حماية البيئة وطهرها والحفاظ على توازنها الطبيعي والعمل للتنمية المستدامة لمصلحة الأجيال الحاضرة والقادمة. وكرمت الإنقاذ الغابات في أكتوبر 2001م باحتفالها بيوبيل الغابات الماسي بعقد جلسة تاريخية لمجلس الوزراء بمباني رئاسة هيئة الغابات ومنحت هيئة الغابات وسام الإنجاز، ومنحت العديد من رجالات الغابات الأوسمة. وقد حققت هيئة الغابات خلال عهد الإنقاذ طفرات كبيرة في كافة المجالات. ففي مجال حجز الغابات قفزت المساحات المحجوزة غابات من 3 مليون فدان عام 1989 إلى حوالي 28 مليون فدان حالياً أي أكثر من تسعة أضعاف ما كانت عليه قبل الإنقاذ، 5ر9 مليون فدان من هذه المساحات تم حجزها بموجب أمر جمهوري واحد عام 1993. وفي مجال التشجير قفزت المساحة المشجرة سنوياً مما متوسطه 15 ألف فدان عام 1989م إلى أكثر من 300 ألف فدان حالياً. وفي مجال حماية الغابات تمت مراجعة قوانين الغابات لتشديد الجزاءات على مقترفي جرائم الغابات. كانت تلك بعض المحامد الكبرى والواضحة فيما يلي الحكم والسياسة المتعلقة بالغابات عبر مسيرتها الممتدة منذ العام 1902م عند إنشاء مصلحة الغابات والأحراش وحتى يوم هيئة الغابات القومية الحالي... نواصل.