وقبل أكثر من عشر سنوات جاءني السر إبراهيم جمعة ويومها كنت بجريدة (ألوان) عرفني بنفسه بأنه من أبناء النيل الأزرق من قرية (بكوري) محلية قيسان.. وهو خريج قانون من جامعة أفريقيا ويرغب في العمل بالصحافة.. حاولت إقناعه بأن ينخرط في مجال القانون وأن ولايته بحاجة اليه.. لكنه كان مُصراً أن يسير في طريق الصحافة.. وحجته أن النيل الأزرق بحاجة الى كوادر صحفية وأنه يريد أن يخدم مجتمع النيل الأزرق.. فكان لي معه مشوار في مجال مهنة المتاعب فانخرط الراحل في المهنة مراسلاً لألوان التي كنت أشرف على قسم الولايات فيها.. ومن صفحة (أرياف وبنادر) التي كنت أحررها كان المراسل الصحفي السر إبراهيم جمعة قلماً من أقلامها ولينتقل الى (الإنتباهة) كمراسل لها من الدمازين.. وأما السر إبراهيم جمعة الإنسان.. فقد ظل متواصلاً معي .. لا كتلميذ بل كصديق وأخ عزيز.. وأنا أتردد الى الدمازين ظل السر إبراهيم الرفيق الذي لا يفارقني.. ما تبادلنا أطراف الحديث إلا وكانت هموم الولاية هي الهم الذي يشغله.. كان عنيداً وقوياً في قناعاته.. عجز المتاجرون بالسياسة والبهلوانات في شرائه.. كان مشغولاً بالسلام والتنمية.. منحازاً وبصلابة مع توجهات الأمة.. وبعفة لسان وأدب كان يحارب العلمانيين وحارقي البخور والمفسدين.. كان شجاعاً في آرائه ولا أنسى يوم أن قادني الى مركز مالك عقار ليلاً لنلتقي مالك عقار الذي قابل السر بتهجم لما عرفه بأني (فلان).. وشاركني في الحوار الذي أجريناه مع عقار حول المركز.. حيث دحضنا له أفكاره التي تنم عن جهالة وعنصرية.. فقد واجهه الراحل دون وجل أو خوف في وقت كان الكل يرهب عقار ويتقرب إليه.. لكن السر الذي لا يملك من حطام الدنيا إلا قلمه وإيمانه لم ينكسر لعقار ولا المطبلين له.. فالسر إبراهيم خريج جامعة أفريقيا لم يحظَ بوظيفة في سلك الحكومة في ولاية تفتقر الى الكوادر المتعلمة.. فكيف يحظى وهو الذي اختار أن يكون قلمه صوت حق ضد الباطل.. ولا أنسى ونحن معاً نعد تحقيقاً حول أزمة العطش بالمنطقة الغربية للدمازين.. والتي كان نتاجها مليار جنيه من النائب الأول لعمل سدود في المنطقة الغربية وتناكر لنقل مياه الشرب من الدمازين الى المناطق المتأثرة بالعطش.. كان هذا في عهد الوالي المهندس عبد الله عثمان الحاج.. وأشياء ومواقف للصحفي السر إبراهيم أحفظها له.. فقد كان دائماً مع المستضعفين والمسحوقين.. أعرف عنه صدقه وزهده وأدبه الجم.. أعرف عنه تدينه واستقامته.. أعرف عنه حياته وعفته.. أعرف عنه صبره.. فما صبره على المرض العضال الذي ألمّ به منذ سنوات إلا تأكيداً على إيمانه.. فالمرض لم يمنعه عن العمل فلم يجذع.. ولم يتبدل.. فبقلب المؤمن صبر الراحل على الألم والإبتلاء.. ظل يصارع المرض وهو راضٍ غير جاذع.. فهذه شهادة بأنه من المؤمنين الصابرين في البأساء والضراء.. أحسب أن فقيدنا الذي صبر على المرض من الذين في جنات الفردوس.. فاشدكم إبتلاءً الأنبياء ومن دونهم العلماء ثم من دونهم.. ومن دونهم.. فشكة الشوكة لها أجر عند الله تعالى.. فما بالنا من مرض عضال أصاب فقيدنا.. فقد صبر فقيدنا الراحل على المرض وضيق اليد.. ونشهد له بالنزاهة والعفة وطهارة اليد.. ونشهد له بأنه لم يقف عند أبواب السلاطين.. فقد كانت نفسه كبيرة وعفيفة.. ولو أراد الدنيا لجأته.. لكنه لم يفعل لا لشيء غير أنه مؤمن قوي الشكيمة.. فعزاؤنا في فقيدنا أنه دخل الدنيا ولم تغريه بزخارفها ونعيمها.. دخلها مسكيناً وخرج منها مسكيناً.. فنسأل الله أن يدخله الجنه في زمرة المساكين مع المصطفى والصالحين.. وعزاؤنا فيه أنه خرج من الدنيا كما ولدته أمه.. لم يأخذ منها شيئاً.. ولم يخلف فيها غير السيرة الحسنة والعمل الصالح وحب الناس له وحبه للناس.. فلم يترك مالاً ولا قصوراً بل ترك فيها قيم الدين والأخلاق. إلاَّ رحم الله الراحل المقيم المراسل الصحفي والإنسان الخلوق السر إبراهيم جمعة رحمة تسع الأرض والسماء.. اللهم أغفر له وأرحمه وأسكنه جنات الفردوس مع الصديقين والشهداء.. (إنا لله وإنا اليه راجعون).