قبل أن نجلس لامتحان الشهادة بشهرين تقريباً (جاطت) وادي سيدنا وفصل إتحاد الطلاب وعدد آخر غيرهم من المشهود لهم (بالكفاءة) في إلهاب مشاعر الطلاب وحضهم على الشغب والإضراب والتظاهر والتخريب.. أحياناً وليس كما كان يفعل أحد نظار المدارس المشهورين بفصل الأول من كل فصل بإعتباره (مفتري ومتفقلص).. والطيش برضوا لأن لا يهمه شيء وشعاره دائماً (خسرانة خسرانة)..!! المهم لقد كنت وصديقي المهندس الطيب أحمد عز الدين من المفصولين.. ولكن تدخل إمام الأنصار وقتها الصديق المهدي.. وجعل أمر جلوسنا لامتحان الشهادة ممكناً.. ولكن من منازلنا..!! وليست ثمة منازل لنا في الخرطوم وقتها.. وأهلي في أرقو وأهل الطيب في جزيرة مقاصر بدنقلا في أقاصي الشمال.. فاجتمعنا وتفاكرنا في الأمر.. وقررنا أن نشتري بكل ما نملك قرقوشاً وويكة ناشفة (ضرابة) وبعض البهارات والسكر والشاي.. وأن نستأجر منزلاً قريباً في الأحياء المحيطة بمدرسة الوادي.. مما يسهل علينا التواصل وتبادل المذكرات والمراجع مع الطلاب الآخرين حتى نجلس لامتحان الشهادة بإذن الله..!! وذهبنا نجوب القرى حول المدرسة وعلى رؤسنا ركائب الكتب والقرقوش ونسأل الناس.. أن يمنحونا غرفة أو بالأحرى (أوضة) بالإيجار لمدة شهرين.. ولكننا ولما كنا من (ذوي اللون الأحمر) فقد توجس منّا الأهالي خيفة.. وأعتذروا لنا بحجة أن منازلهم يا داب قدر وليداتهم وغنيماتهم..!! ولما بلغ منّا التعب مبلغاً قلت لصديقي الطيب.. فلنذهب إلى ذلك البيت الكبير ونطرق الباب عسى أن يفرجها الله.. وبالفعل فعلنا وخرج إلينا رجل صبوح ورحب بنا.. وأدخلنا بيته وأكرمنا وسألنا عن زيارتنا.. فشرحنا له الأمر فبكى الرجل وقال لقد كان لي ولدان مثلكما تخرجا من الجامعة.. ولكنهما توفيا إلى رحمة الله.. ثم أخذنا إلى ناحية قصوى من منزله.. وقال هذه البرندة والغرفة (المفروشة).. وخدمات الماء والإنارة والحمام كلها تحت تصرفكما .. وستقوم الأسرة بمدكم يومياً شاي الصباح ووجبة الإفطار وعليكما أن تباصرا الغداء والعشاء.. وأن تلتفتا إلى دروسكما سائلاً الله أن يكتب لكما التوفيق والنجاح.. ثم إنصرف وتركنا ونحن نتقافز فرحاً..!! وظل شاي الصباح وكميات اللبن واللقيمات التي تأتي معه تكفينا أيضاً لشاي العصر والمغرب.. إما وجبة الفطور فكانت تكفي لعشرة من أمثالنا.. وقد كفتنا غداءً وعشاءً..!! لقد وفر لنا هذا الرجل المحسن ما لم نكن نحلم به من الراحة والإستقرار والطعام والجو المناسب للإستذكار والقراءة.. واستطعنا من موقعنا أن نتصل بطلاب المدرسة ونتسلل إليها أحياناً كاللصوص لنعلم آخر التطورات.. وما استجد من مذكرات يجلبها الطلاب توطئة لمجابهة الامتحان المقبل..!! جلسنا للامتحان بفضل الله وفضل السيد الصديق المهدي.. وفضل الرجل المحسن الذي آوانا.. وأطعمنا وسقانا ولما غادرناه مودعين بكى مرة ثانية ونصحنا نصيحة الأب.. وقال لنا مثلاً.. لا استطيع كتابته ولكنه يعني أكملوا تعليمكم ثم أضربوا وتظاهروا كيف شئتم.. ولا تفعلوا ذلك على حساب آبائكم وأولياء أموركم..!! غادرنا هذا البيت الكريم.. وفي طريقنا توقفنا إلى أسرة كانت ترغب في استقبالنا.. ولكن ظروفها لم تسمح فأنزلنا إليها حمولتنا من القرقوش والضرابة.. فأخذوها شاكرين وأعينهم تفيض من الدمع..!!