كان نظام الدراسة في وادي سيدنا أن يدرس الطالب كل المواد علمي وأدبي.. ولا يحق له التخصص إلا في السنة الأخيرة.. بخلاف ما يحدث في مدارس ثانوية أخرى كحنتوب مثلاً .. وكان أهم ما يميز الدراسة في ذلك الوقت إنها تتم كلها باللغة الإنجليزية.. عدا مادتي العربي والدين.. ولهذا فإن خريج الثانويات على عهدنا.. كان يتمتع بمستوى عالٍ في اللغة الإنجليزية بل ويزخر عقله بآلاف الكلمات والجمل.. التي يلتقطها من مادتي العلوم والرياضيات.. بل وكل المواد من جغرافيا وتاريخ وفنون وإنجليزي طبعاً.. ولا أدري ماذا فعل التعريب باللغة العربية نفسها ناهيك عن الإنجليزية.. وهي لغة تفرض نفسها على العالم شئنا أم أبينا..!! كذلك فإن الشهادة الثانوية لم تكن ترصد بمجموع الدرجات كما يتم الآن.. ولكنها كانت ترصد بدرجات الإمتياز والجيد جداً.. والجيد ودرجة المرور أو الرسوب.. ويمنح المتفوقون درجة تسمى (قريد ون) ويمنح البعض درجة (القريد تو).. ومن بعدهم درجة (القريد ثري).. ومن لم يحصل على أيٍ من الدرجات الثلاث يكن من الراسبين.. ولا حول ولا قوة إلا بالله ...! وقد كنت من ضمن الذين منحوا (قريد تو).. ولكنها بكل أسف لم تحقق رغبتي في الإلتحاق بالجامعة لأن تفاصيلها كانت عبارة عن أربع مواد بدرجة ممتاز وجيد.. ولكن المادة الخامسة كانت بدرجة المرور..!! ومن طرائف هذا النظام أن بعض المتخرجين بدرجة (قريد ثري) يدخلون الجامعات لأنهم تحصلوا على درجة جيد في خمس مواد ولا يدخلها بعض حملة (القريد تو) من أمثالي..!! تقاطر الطلاب نحو الخرطوم بعد إعلان نتائج الإمتحان لإستخراج شهاداتهم.. ومن ثم التقديم بها للجامعات والمعاهد المتاحة أو البحث عن وظيفة أو فرصة للإعادة.. وكانت المحطة الوسطى في قلب الخرطوم هي ملتقى الجميع.. حيث أنباء من التحقوا بالطب والهندسة والآداب والقانون.. ومن ظفر بوظيفة في مصلحة ما ومن رسب وهام على وجهه يبحث عن فرصة الإعادة.. وهذه الأيام المرة.. الحلوة.. كان الطلاب يسمونها أيام الطيران.. وهي تسمية دقيقة جداً .. لأن الطالب يظل طائراً (لا يرك) أو يقر له قرار حتى يلتحق بمؤسسة تعليمية ويأوى إلى داخليتها أو يحصل على وظيفة ويتعيش من دراهمها.. وكان طموحي.. كل طموحي أن التحق بمعهد المعلمين العالي.. وأصبح المعلم الذي كاد أن يكون رسولاً .. ونافست وكدت أن التحق ولكن لجنة معاينة كان يرأسها الأستاذ المرحوم محمدالتوم التجاني ... (نفضتني) ليه ما أعرفش علماً بأني أملك (شاسيه) المعلم وطلعته البهية وصفاته الأبوية والإنسانية.. وأملك فوق ذلك وهذا وذاك حلقوماً يستطيع أن يسمع الجميع ولا يحتاج إلى مايكرفون..!! خرجت من معهد المعلمين العالي.. وهو كلية التربية (الكائنة) الآن شرق مقابر شرفي.. وأسرعت بعربة تاكسي إلى المعهد الفني وهو جامعة السودان الحالية.. وقابلت عميد كلية الفنون وأوضحت له.. بأني قد تحصلت على (قريد تو) ودرجة الإمتياز في الرسم وأرغب في الإلتحاق بكلية الفنون.. فأدخلني إلى قاعة كان يؤدي فيها الطلاب الراغبون في الفنون إمتحاناً .. وأجلسني وطلب مني الإجابة بالرسم على السؤال وهو سفينة نوح ... وقمت برسمها وبداخلها عشرات الحيوانات من قرود وثعالب وكدايس.. وفي صبيحة اليوم التالي وجدت نفسي من المقبولين ضمن ثلاثة عشر آخرين.. وإنخرطت في الدراسة الممتعة على أيدي أساتذة كرام عمالقة على رأسهم الأستاذ الفنان العالمي الصلحي.. والسيد نجومي والمسز نجومي.. ومحمد أحمد(بورتفوليو) وصالح الزاكي وآخرين .. ولكني بكل أسف رفست كل هذه النعمة.. وأصبحت شرطياً .. لقد قدر الله وما شاء فعل..!!