تعودت بين الحين والآخر أن أحرر عموداً أخصصه للتذكير بأحوالنا قبل فترة من الزمن والذكرى تنفع المؤمنين.. وتأتي هذه التذكرة في ظروف نعتقد أنها أفضل كثيراً من ظروف المعاناة التي عشناها والتي نتمنى أن لا تتكرر مرة أُخرى.. ونثق في أن أبناءنا من جيل هذا الزمن محظوظين جداً في كل مناحي حياتهم و«مرطبين» مية مية.. ولهذا فهم ليسوا بحاجة إلى الإحتجاج على الظروف مهما صعبت أو زادت تعقيداً. كنا يا أبنائي في السبعينيات والثمانينيات وحتى مشارف التسعينيات من القرن الماضي نعاني من ندرة أشياء كثيرة.. مثلاً رغيف العيش يصرف لنا بالتموين من الطابونة التي تعمل بالحطب والحد الأقصى لحصول أُسرة كبيرة مهما زاد عدد أفرادها لا يتجاوز عشر رغيفات صغيرات الحجم وشكلها قبيح ومليئة بالشوائب ولكي تحصل على نصيب أولادك من الرغيف اليومي يجب أن تصحو من النوم مبكراً والأفضل ألا تنام أصلاً لتتمكن من الوقوف في صف الرغيف أمام الشباك قبل الرابعة صباحاً حتى تحصل على عدد الرغائف كاملة قريباً من السابعة صباحاً وقد يضطر الشخص إلى تأجير شباب أقوياء لحراسة مكانه في الصف بمبلغ أعلى من قيمة الرغيف المطلوب شراؤه.. ويومك أسود عندما تحتاج إلى كميات كبيرة من الرغيف بسبب الزواج او الوفاة لاحد أفراد الأسرة ففي هذه الحالة عليك أن تتصل بالمجلس المحلي الذي يطلب منك إقراراً وشهادات تثبت الوفاة او الزواج ومن ثم يتم التصديق لك بشراء ثلاثمائة رغيفة فقط بعد أن تدفع الرسوم ولابد أن يحدث ذلك قبل فترة كافية لا تقل عن يومين للحصول على المائة او الثلاثمائة رغيفة. وإذا كانت سلعة السكر شكلت عذاباً مؤقتاً لسكان العاصمة في بعض الوقت من هذا العام ولأول مرة منذ عشرين عاماً فلابد أن نتذكر أننا على عهد حكومة النميري وحكومة الأحزاب من بعده كنا نحتفظ في بيوتنا بدفاتر إسمها دفاتر التموين لأغراض الحصول على السكر بمعدل اثنين أوقية فقط لكل فرد والأسرة تحصل على أقصى حد لا يزيد عن عشرين أوقية في كل اسبوع يمكن وهذه أقل من الكيلو بما يعادل نصف رطل كامل. وبعد الحصول على التموين الاسبوعي يمكن أن لا تأمل في الحصول على أي سكر خلال ثلاثة اسابيع ومرة أخرى يومك الاسود عندما تحدث وفاة او مناسبة فرح وتضطر للحصول على عشرين او ثلاثين رطل سكر فهذا يحتاج إلى إراقة ماء الوجه في المجالس والمحليات للحصول على التصديق بعد دفع الرسوم المقررة. وإذا كان أولادنا يشتكون من قلة المياه بسبب زيادة مناسيب النيل خلال ايام قليلة ففي زماننا أصلاً كانت المياه شحيحة ومعدومة وكنا نصحو طوال الليل للحصول على جردل واحد من الماسورة التي تنقط ولكي تحصل على الجردل يجب أن تقوم بثقب الماسورة الرئيسية وتحفر حفرة عميقة وتدخل فيها الجردل، وهذا الجردل قد يشترك فيه معك الأهل والجيران.. أما الحصول على الغاز لأغراض الطبخ فقد كان صعباً وعملاً شاقاً حيث يوجد مكان واحد في كل الخرطوم «وهاك يا مدافرة» ولم يتم الحصول على أنبوبة إلا كل ثلاثة أشهر .. أما البنزين فحدث ولا حرج جالونين فقط للسيارة ولمدة سبعة أيام وتحصل عليه بعد أن تزحف في الصف وتبيت فيه ليلتين.. وسأحدثكم لاحقاً عن الكهرباء التي تأتي لمدة ساعة واحدة فقط كل يومين.. وأحدثكم عن إنعدام معجون الأسنان الذي كان يأتينا هدايا مع المغتربين وصابون الحمام ولبن البدرة.. وكنا ننتظر المغتربين على أحر من الجمر حتى يحضروا لنا معهم السجائر «البنسون» حيث إن البرنجي كان يتم صرفه بالدفاتر وصندوق واحد أبو عشر سجارات كل اسبوع للأسرة.. وحتى البيبسي كولا يجب أن تحصل عليها بالتموين بعد أن تدفع قيمة التأمين.. وألواح الثلج لمناسبات الأفراح والبكاء تحصل عليها بالصف بعد التقدم بطلب لمجلس المدينة.. أما الغاز فتحصل عليه بعد أن تترك «أنبوبتك» لمدة ثلاثة أسابيع وتقف في الصف لمدة يومين ومثله مثل البنزين الذي تحصل عليه بالدفتر وجالونين في الأسبوع وتحتاج إلى أن تبيت في «الطرمبة» لمدة يومين. ياجماعة أحمدوا الله ساكت وقولوا اللهم أدم علينا نعمة «الوفرة».