صعد الحافلة المتجهة من الخرطوم إلي ودمدني شاب في بداية الثلاثينات من عمره تقريباً ، يقول للركاب أن قيمة التذكرة إلي ودمدني " 30" جنيه ... نعم ثلاثون جنيهاً!! ، فهاج الناسُ وماجُوا ، وعلا الضجيج ، وكثُر التساؤل لماذا ؟؟؟!!!... فصاح رجلٌ فوق ستين من العمره:" يا ولدي البص السياحي بي 27جنيه !!! .. وبالتأكيد الحافلة أقل سعراً من البص السياحي .. وهي في حدود ال 20جنيه لا غير .... فصاح الشاب في وجه الجميع " بي تلاتين جنيه والماعاجبوا ينزل لينا بسرعه " !!!.. فرد الناس بصوتٍ واحد ...نزلنا ...نزلنا .... نزلنا... فتركوا له الحافلة وتوجهوا لحافلة أخري قال لهم صاحبها : التذكرة بي " 20 " جنيه فقط .. وتأكد للركاب أن ذلكم الشاب ماهو إلا سمسار ...أتفق مع صاحب تلك السيارة بأنة سيحصل علي أضعاف أضعاف ما يجد إذا كانت التذكرة " 30" جنيه ، خصوصاً وكان اليوم خميس وأغلب الناس متجهة إلي ذويهم ، أو إلي مناسباتٍ خاصةٍ وعلاقات إجتماعية ... وإذا ذهبت إلي الميناء البرئ ستجد جيوش من السماسرة ، عددهم أكثر من البصات الموجودة في الميناء ، كل بص مقابله "رهط من السماسره" يكادوا يرجمون بأصواتهم مزاج المسافر ومعنوياته ، يلتقوك خارج الميناء البرّي ، ومنهم من يجري خلف العربة التي تحمل الناس قرب الميناء البري ، حتي لو كانوا غير مسافرين ، وتخشي أن تدهس هذه العربة أحدهم .. وهم يصيحون ... القضارف ...حلفا .. كسلا .. سنار ..الدمازين ..الأبيض .... ومن المعروف أن كل شخص خرج من بيته ومسافر إلي جهةٍ ما يعرف جيداً مساره ووجهته ..، والميناء البرئ صُمم علي أساس التوجيه الألكتروني ، والتنبيه بواسطة الأجهزة الموجوده في الصالات ... ولكن الآن صار أسوأ ما يكون ، هو في تراجعٍ مريع بدل أن يكون في تطورٍ مستمر ، رغم أن كل مسافر يدخل يدفع مبلغ " جنيه ونصف جنيه " ... لا توجد قوانين تنظم العمل في الميناء البرّئ ، وإن وُجدت فلا فاعلية لها...شباب في عمر الفتوة والبناء والإنتاج تجدهم يعملون في هذه الأعمال الهامشية التي تُدمِر ولا تُعمِر؛ طاقات مُهدره في لا شي، لا شك أن الدولة وتخطيطها الإقتصادي لهما النصيب الأكبر في هذا الأمر ... وهؤلاء السماسرة والوسطاء – ليتها كانت وساطة خير ولكنها وساطة تمتص دم الفقير والمُستهلِك وتزيد من شراهة التاجرالذي لا يخشي الله - يأكلون من منسأة المواطن ، أكل من لا يخشي ، ويمتصون من دمائه ، حتي أصابوه "بأنيميا "مزمنه.... تجد المزارع البسيط يزرع المحصول " الطماطمأو البصل مثلاً" ويأتي بمحصولة هذا إلي السوق المركزي عبر اللواري ، أو أي وسيلة نقلٍ أخري ، ثم يهجُم عليه السماسرة بالتحالف مع كبار التجار " الذين لايخافون الله " ولا رحمة في قلوبهم ويشترون منه هذا المحصول بثمنٍ بخس جنيهات معدودةٍ لا تساوي جزء من كُلفة الإنتاج فيخسر المُنتِج ، ولا يزرع العام المقبل ، وينهار القطاع الزراعي ، ووزارتي الزراعة والمالية ، لا تُفلحان إلا في فرض الضرائب ، والعوائد علي المزارع البسيط ... الوسطاء والجشعين من التجار يكسبون الأرباح الكبيرة ... كان من الواجب علي الدولة ممثلةٌ في وزاراتها ذات الصلة أن تشجع المُنتج وتحارب جشعي التجار، وتعلنها حرب شعواء علي السماسرة والوسطاء ... الدول التي تُريد التقدم والإزدهار تشتري من المزارع بأسعار تشجيعية ، ويتم إعفائه من الضرائب والرسوم وغيرها ؛ لكي تشجع المُزارع ويواصل في إنتاجه ... الإقتصاد منظومة متكاملة ... من المنتجين والمستهلكين والعاملين والقوانين التي تنظم العمل ، فواجب الدولة أن تشجع الإنتاج وتُحفز المنتجين ، وتضيق الخناق علي السماسرة والوسطاء ، وأثبت الزمن ، وصدقت الوقائع أن هؤلاء السماسرة لهم الضلع الأكبر في تضاعف الأسعار ، مع الإخفاقات التي لا تُحصي ولا تُعد في التخطيط الإقتصادي بصفةٍ عامه .. الدولة فشلت حتي الآن في عمل قانون يحارب السمسرة والوساطة ... وحتي رئيس الجمهورية تحدث في المؤتمر الصحفي الأخير عن ما يُعرف "بالكَسِر "؟؟!! رجاؤنا من الخبراء في المجالات الإقتصادية والقانونية يجلسون مع بعضهم بعضا ، ويخرجون بقانون يُحارِب السمسرة والسماسرة ، وأضعف الإيمان أن يُقنِنِها .... فتقرير منظمة الشفافية الذي وضع السودان في مُؤخِرة الدول العالمية الأكثر فساداً، رغم تحفظنا علي هذه المنظمة ، وتشككنا في نواياها ، فمثل هذه المنظمات لها تاريخ عداء صارخ مع السودان ،لكن لابد لنا أن نقف عنده ، وننظر له بتجرد ، ونغير العديد من سياساتنا ... و"إن الله لايُغير ما بقومٍ حتي يُغيروا ما بأنفسهم " ...