تنذر الأوضاع السياسية العامة في البلاد خاصة إذا ما أضفنا إليها عوامل التعرية التي تغيرت معها (جلود) الأحزاب بعد أن غاب دورها الفاعل خلال ربع القرن الماضي طوال حكم الإنقاذ لأسباب منها القسري والاختياري، عدا حزب المؤتمر الوطني الذي ظل منفردا بتلوين اللوحة السياسية خلال تلك الفترة التي لم يسجل التاريخ فيها أدواراً مهمة لأي من الأحزاب السياسية رغم عراقة بعضها، اللهم إلا من أدوار يصفها المراقبون بأنها لا تعدو «ديكورية» ولا يمكن عدَّها فعلاً سياسياً كمشاركة ما يُعرف بأحزاب الوحدة الوطنية في الحكومة ، ومؤخراً مشاركة الحزب الاتحادي الديمقراطي (الأصل) بقيادة مولانا السيد محمد عثمان الميرغني في الحكومة العريضة. وعلى الرغم من أنه الفاعل السياسي الأبرز في الساحة السودانية، إلا أن حزب المؤتمر الوطني دعا إلى حوار عام، يفتح الفرصة واسعة أمام القوى السياسية للإدلاء بمقترحاتها حول القضايا الوطنية، وفوق هذا وذاك يهيء أجواء متسامحة خاصة وأن الدعوة للحوار لم تستثن حتى حاملي السلاح طالما هتفوا (أرضا سلاح). مجرد الدعوة للحوار تعني أن المؤتمر الوطني يخطط لتحقيق بطولة تاريخية تتمثل في حصوله على براءة اختراع (مأسسة الدولة السودانية) لأول مرة منذ أن تذوق السودانيون طعم الاستقلال، فحالما ينجح الحوار لن يكون عصياً على طلاب المدارس فضلاً عن المثقفين تحرير معنى الهوية السودانية، كما أن أحدا لن يستعيض عن وطنيته بإثنيته العرقية رغبة في تحقيق ذاته عبر وازع الانتماء. ولا ينكر أحد إلا من باب القفز على الواقع أو المكابرة أن دفة قيادة اللعبة السياسية كانت ومازالت في قبضة حزب المؤتمر الوطني، لأسباب منها ضعف (المنافسة) الحزبية وعدم مناسبة المناخ السياسي العام لظهور (أنداد) سياسيين للمؤتمر الوطني حتى الآن، ولولا إعلان المؤتمر الوطني نيته لإدارة حوار وطني يُراد له أن يخرج بتوصيات تصف الدواء الناجع لأمراض ورثها الحزب الحاكم ممن سبقوه بالجلوس على سدة الحكم، أو اكتسبها خلال ربع القرن الأول من عمر «الإنقاذ»، لم نكن نتوقع أن يُسهم (الحوار المفتوح الآن) في إعادة تشكيل الخارطة السياسية الفاعلة. فالمشهد السياسي في البلاد، حتما سيتغيَّر باعتبار أن أوزان الأحزاب التقليدية شهدت زيادات ونقصانا في قواعدها وتبدلات في أهدافها وخططها خاصة مع استصحاب المستجدات وظهور لاعبين جدد مكنهم المران المستمر من هضم فنون العمل السياسي من أهمهم (المؤتمر الشعبي). وفي ظل أجواء واعدة بوحدة وشيكة للإسلاميين في السودان (المؤتمر الوطني المؤتمر الشعبي) بعد طول مقاطعة وخصام، وأحاديث عن محاولات ترميم جدران الحركة الاتحادية (المتصدعة) ولم شتات البيت الاتحادي فإنه من المُرجّح أن يتمخض الحوار ليلد كيانا جديدا يضع كلا من (الصحوة الإسلامية)، و(الجمهورية الإسلامية)، و(المشروع الحضاري الذي يتقاسم رايته كل من المؤتمر الوطني والمؤتمر الشعبي) في سلة واحدة. وتسند توقعاتنا بميلاد حزب جديد أكثر فاعلية، حزمة من المؤشرات أبرزها التعاطي الإيجابي لأحزاب الأمة (بألوانها وأصنافها المختلفة) مع دعوة المؤتمر الوطني للحوار وكذلك الاتحاديين بألوانهم الرئيسية، والوازع الوطني الذي يدعو للتنادي من أجل الوطن هذه الأيام، إضافة إلى (المأزق) الذي تعيشه المنطقة العربية بعد تصنيف (الإخوان المسلمون) جماعة إرهابية، دون تحديد بدائل تحمل الراية الإسلامية التي يجب أن تبقى (مرفوعة) ما بقيت هذه الحياة الدنيا. تقودنا قراءة الأوضاع الداخلية في وطننا السودان مع ما يدور من لغط عربي حول (معنى الإرهاب)، وما يتشكل في المحيط العربي والإقليمي من أضداد دولية إلى استشراف ميلاد أحلاف جديدة في المنطقة انطلاقا من محور موالاة أو معاداة الإخوان المسلمين. على الرغم من أن (الأحزاب والقوى السياسية) انقسمت إزاء تعاطيها مع دعوة الحزب الحاكم (المؤتمر الوطني) للحوار إلى قسمين أحدهما يؤيد الانخراط في الحوار الوطني دون قيود، والآخر يرهن مشاركته بتحقق شروط، إلا أن المراقب يلحظ أن كفة التأييد غير المشروط تضم أكبر الأحزاب من حيث الثقل الجماهيري، كما أن هذه الكفة تجمع كل الأحزاب والقوى الإسلامية، الأمر الذي يمهِّد لانصهار مكونات كفة التأييد في بوتقة سياسية جديدة، ويضع الآخرين أمام حرج بالغ عقيب نجاح الحوار. حتى لحظة كتابة هذا المقال، فإن كل القوى السياسية وافقت على الدخول في الحوار الوطني المعلن من غير شروط مسبقة، عدا حزبين هما الحزب الشيوعي، وحزب البعث، وبنظرة عاجلة يمكن ملاحظة مافعلته دعوة الحوار في فرز الكيمان منذ الوهلة الأولى، الأمر الذي من المرجح معه أن يعمل الحوار على إذابة الفروقات الفرعية بين كل مكونات السياسة في البلاد ويثير حنين الفروع الحزبية إلى أصولها، والأصول إلى فروعها، وذلك لتعالي (النبرة) التصالحية بين فرقاء الأصل الواحد منذ أن هلّ شهر الحوار، فالمؤتمر الشعبي يتحول من خصم كان يقف في أقصى اليسار معارضاً إلى مؤيد للحوار ويدعو زعيمه الدكتور حسن الترابي أعضاء حزبه إلى تناسي الخلافات والقفز فوق الجراحات لتلقف الراية التي كادت تسقط، وزعيم الاتحادي الديمقراطي جناح الدكتور جلال يوسف الدقير يعلن على لسان رئيسه أن خطوات تجري من أجل وحدة الاتحاديين. دعوة الحوار الوطني، نجحت في تلطيف لغة التواصل الحزبي، ما يبشِّر بتوافر رغبات صادقة في إمضاء الحوار من أجل قطف ثماره توافقا على متطلبات النهوض بالوطن على أكتاف القوى السياسية كافة. ويتحدث الناس في السودان بعيدا عن الأحزاب وأطماعها عن حال لا تسرُّ صديقا إلا من كوة الحوار المعلن التي يستشرف منها الوطنيون قبسا يبشِّر بانطلاق نهضة تضخ الدم في عروق الحياة الوطنية، لكنهم ينتظرون اتفاقا يطوي مساحة (الخلاف) على الزعامات، ويشغلها ب»خلاف» على الاجندة والأهداف. لا يهم المواطن البسيط في السودان من يتزعم (الصحوة أو الجمهورية أو المشروع)، لكن يهمه ترجمة الإسلام سلوكا يسبق الخطاب يقرأه البسطاء في مرايا قلوبهم التي جبلها الله تعالى على حب الإسلام معنى ووصفاً واسماً. كما أنه لا يهمه من يُحاسب من، فقط يتألم كلما ، أخذ الساسة يتلاومون، وتأخر قطار النهضة.