يصادف اليوم الثاني والعشرون من شهر يونيو الذكري الثامنة والثلاثون لرحيل السياسي البارع والمثقف الرائع والمهندس الماهر والقاضي العادل والمحامي الخلوق ،وزير الخارجية بعيد الاستقلال ورئيس الوزراء في الديمقراطية الثانية السيد محمد أحمد المحجوب ، ذلك الرجل الذي تفيض حنايا فؤاده بإحساس مفعم في حب الوطن ، بل تعداه لمساحات أرحب عربياً وإفريقيا، ترجمها نثراً وشعراً ، قال عنه لورد كارادون الذي يعتبر من أبرز مفكري عصره في بريطانيا في مقدمة كتاب الديمقراطية في الميزان لمحمد احمد المحجوب «رغم اتهام محجوب للإدارة البريطانية في السودان بتقوية الانفصال في الجنوب بل بتشجيعه ، وهي تهمه خطيرة ، واخشي أن تكون جزئياً صحيحة . ولكن البريطاني يجد بعض الرضاء إذا يعلم أن محجوب يتكلم دوماً عن البريطانيين باحترام في الصميم بود .. والحقيقة أن أحكامه علي الناس والقضايا تجي عادة متسامحة أكثر منها ناقدة . فقد سره نطق الملك الحسن ملك المغرب السليم بالغة العربية ، وأعجب بشجاعة الملك حسين وصراحته ، وأخذ بسحر الملك فيصل وقوته ، حتى كلامه عن الرئيس ناصر، الذي خدعه في النهاية كان كلام صديق « . ولد محمد احمد المحجوب في 17/ مايو /1908م بمدينة الدويم من أب يتصل نسبه بالبسابير جنوب مدينة شندي ، وأمه من أسرة الهاشماب - تخرج المحجوب من كلية غوردون التذكارية مهندساً عام 1929م ، وعمل مهندساً بمصلحة الإشغال العامة ثم عاد للكلية لدراسة القانون . عمل قاضياً حتى العام 1936م وقدم استقالته آنذاك ليتفرغ للعمل السياسي من اجل استقلال السودان أشتغل بالمحاماة منذ العام 1947م حتى وفاته ، إلا في الفترات التي تقلد فيها مناصب وزارية – أختيره وزيراً للخارجية لأول مرة في يوليو 1956م ومرة أخري بعد ثورة أكتوبر 1964م ، ثم أنتخبه رئيساً للوزراء في يونيو عام 1965م ، ومرة أخري في مايو عام 1967م وحتى انقلاب مايو في 1969م – انتقل إلي رحمة مولاه في 22/6/1976م وهو يبلغ من العمر 68 سنة . تميزت شخصية محمد أحمد المحجوب ، تميزاً فريداً ، للمبدع والمثقف السوداني وهو القائل « قيمة الحياة في الخلق والابتكار « فكان رحمه الله كاتب بارع نثراً وشعراً وقصة ، وخطيب مفوه فصاحةً وسحر في البيان – وهنا تحضرني قصيدته « شهيد الرجاف « التي نظمها تخليداً للشهيد عبيد حاج الأمين الذي سقط شهيداً دفاعاً عن الحرية وهو في منفاه بالجنوب الحبيب – ويقول محمد احمد المحجوب في تلك القصيدة التي تعتبر من عيون الشعر العربي : وتأودت سمر القنا من سفحه ترثي شهيداً في التراب دفينا لم يألف القيدَ المذل ولم يكن للعار في يوم الطعان ، قرينا وهب البلاد حياته متهللا و قضي حميداً بالخلود قَمينا وما زلزال الرجاف غير رفاته رتلن أياً أو شدون حنينا صرخاتُ مشتاق لصهوة سابح وزئير أسد قد حَمينَ عَرينا هذا بالإضافة لرائعته زايعت الصيت الفردوس المفقود والتي تجلت فيها قدرة الشعرية حينما التقت في شعره الحضارة العربية بالخصوبة الإفريقية فقد هزته الأشواق إلي الماضي العربي الإسلامي ، وجسد فيها صورة حيه للبطولات والأمجاد ، لماضي كم ما ظل ينشده . كذلك ألفه المحجوب كتاب موت دنيا بالاشتراك مع احد رصفاه البارعين ، ويعد كتابه الديمقراطية في الميزان احد أهم المراجع التاريخية والفكرية والسياسية ليس في السودان فحسب بل في كل العلم العربي والإفريقي وقد جاء في ذلك بقلم لورد كارادون في مقدمته لكتاب الديمقراطية في الميزان « أن كتاب الديمقراطية في الميزان يحوي أكثر من تأملات في السياسات العربية والإفريقية ، ويروي المحجوب تاريخ الشرق الأوسط بصورة تشمل السنوات الخمس عشرة المضطربة التي تلت استقلال السودان في سنة 1956م ، ويفعل ذلك من الداخل – إذا انه يلقي ضوءاً جديداً علي حوادث عصره المحمومة المثيرة ، ويعطي صورة دقيقة و واضحة عن الزعماء العرب والأفريقيين – وظل كما قالت التايمز» ظل المحجوب محتفظاً بأيمان عتيق بالديمقراطية « « . أما محمد أحمد المحجوب السياسي ، فهو يعد واحداً من قلائل في ذلك العهد من دهاقنة السياسة ، وقد أسس مع رصفاه جمعية أبنا الموردة الثقافية أمثال عرفات محمد عبد الله ، وأحمد يوسف هاشم ، وعبد الحليم محمد ويوسف التني ، وعبد الله عشري ، ومحمد عشري الصديق ، والتجاني يوسف بشير وكانت مجلة الفجر بقيادة رئيس تحريرها عرفات محمد عبد الله منبراً ثقافياً وأدبياً وسياسياً ، لا تبالي في سبيل كلمة الحق ، وحملت الروح الوطنية العلية والخلق السامي ، وعمل فيها المحجوب مع رفيقه يحي الفضلي علي محاربة الطائفية. لم يكن المحجوب طائفياً ، بل كان وطنياً يعمل مع رفاق دربه في مؤتمر الخريجين ، وفق تكتيك يراه من وجهة نظره اسلم ، خالف فيه الأزهري وأشقائه ، وإن كانت روح العمل والهدف واحده بينهم ، وإن استعان الأزهري بالطائفة ليهزم الطائفة ، فنجد أن محمد أحمد المحجوب لم يستسلم للطائفة ، وحتى حينما أنضمه لحزب الأمة ، في يناير عام 1956م بسبب أن حزب الأمة رفع شعار الاستقلال ضد شعار وحدة وأدي النيل ،الذي كان يرفعه الأزهري للوصول به لاستقلال السودان ، ولكن هذا لم يمنع المحجوب و الأزهري من التعاون سوياً في سبيل الخلاص من الاستعمار.وهو القائل «لقد كان التحالف بين المهدي والميرغني أعظم كارثة مُني بها تاريخ السياسة السودانية ، ففي هذا التحالف سعي عدوان لدودان مدي الحياة ، بدافع الجشع والتهافت علي السلطة والغرور والمصالح الشخصية ، إلي السيطرة علي الميدان السياسي « ولا ننسي ولن ينسي التاريخ أن السيد محمد أحمد المحجوب ظلم كثيراً ، كما ظلم الكثير من رفقاء الدرب ، أمثال خضر حمد وعبد الماجد أبو حسبو وكثيرين من الوطنيين الشرفاء ، ظلموا من قبل الطائفية أذا كانوا هنا أو هناك . تجلت قدرات المحجوب السياسية أبان القمة العربية ، وعمل مع رفقاء دربه الزعيم الأزهري والشريف حسين الهندي ، في عقد مؤتمر القمة العربية في الخرطوم ، والذي من خلاله نجح المحجوب ورفقائه في مصالحة الزعماء العرب « ناصر ، الملك فيصل « وتم في ذلك المؤتمر التعاون بين الدول العربية و علي اللات الثلاثة ضد العدو الصهيوني هذه لمحه قليلة عن حياة الزعيم والرجل الفذ محمد احمد محجوب ، في ذكرى يوم رحيله رحمه الله المغفور له محمد أحمد المحجوب ، ويظل المثل الحي للوطنية والسياسي المقتدر ، ونبراس تقتدي به الأجيال .