بعد مرور سبعة عشر يوماً من أحداث (أبيي)، انفجر الوضع بشكل أكثر عنفاً ودموية بولاية جنوب كردفان، بما ينذر باحتمال تمرد جديد في الجنوب الجديد للسودان أو اندلاع حرب حقيقية بين الدولة الأم والدولة الوليدة. إن البحث عن دوافع ومبررات الوضع المشتعل يتطلب النظر في ضلعي الحدث الرئيسيين وهما المؤتمر الوطني، والحركة الشعبية، والتي تحاول أطراف منها تصوير أحداث جنوب كردفان الجارية الآن، بأنها تمرد داخلي في القوات المسلحة وتارة تقول إنه عصيان في القوات المشتركة، رغم أن بعثة الأممالمتحدة أقرت بأن ما يجري في جنوب كردفان من أحداث هي بين القوات السودانية والجيش الشعبي . دوافع الحركة الشعبية إن أسباب التصعيد من جانب الحركة والعوامل الدافعة له في هذا التوقيت كثيرة، ولعل من أبرزها، رغبة الحركة في فرض سياسة الأمر الواقع قبل تدشين دولتها الجديدة ورغبتها في إثبات قدرتها، ليس في مجال السيطرة على الجنوب فحسب، وإنما في السيطرة على مناطق أخرى، أو بمعنى آخر قدرتها على توسيع حدودها بما يعود بالفائدة على أبناء الجنوب. وهذه النقطة بالذات ترتبط، حسب كثير من المراقبين، بالمشكلات الكبيرة التي تواجهها الحركة على الصعيدين الاقتصادي والأمني في آن واحد، كما تبرز الخطورة الأمنية في وجود سبع حركات مسلحة في ولايتي أعالي النيل وبحر الغزال الحدوديتين مع الشمال واللتين ترفضان الانصياع لسيطرة الدينكا على مقاليد الأمور في الجنوب. وبالتالي، فإن عملية التصعيد العسكري في أبيي وداخل حدود الشمال هي بمثابة رسالة غير مباشرة من الحركة إلى هذه الحركات بضرورة إلقاء السلاح، والعودة لهيمنتها في الجنوب.؛؛؛ دوافع ومبررات الوضع المشتعل في جنوب كردفان يتطلب النظر في ضلعي الحدث الرئيسيين وهما المؤتمر الوطني، والحركة الشعبية ؛؛؛ ومن الدوافع القوية لدى الحركة الشعبية للتصعيد، أيضاً، إحراج الخرطوم خاصة فيما يتعلّق بالعلاقة مع المجتمع الدولي، وفي القلب منه الولاياتالمتحدة. إذ يلاحظ أنه كانت هناك وعود أميركية بتحسين العلاقات مع الخرطوم وتقديم بعض المزايا للرئيس السوداني، عمر البشير، حال المضي قدماً في تطبيق اتفاق نيفاشا واحترام نتائج الاستفتاء. ومن ذلك رفع اسم السودان من اللائحة الأميركية للدول الراعية للإرهاب، فضلاً عن إمكانية رفع العقوبات المفروضة عليه من قبل واشنطن، وكذلك إمكانية إسقاط الديون. وبالتالي فإن إقدام الحركة على مثل هذه الخطوة قد يجعل نظام البشير في موقف حرج، فالتجاهل يعني مكسباً للحركة، أما التصعيد فيظهره في موقف قد يغضب واشنطن، وبالتالي تتراجع عن تقديم هذه الوعود. ويبدو أنها نجحت في ذلك، لأن لهجة التصعيد القوية التي تعامل بها البشير مع الحدث دفعت واشنطن ليس فقط لسحب هذه العروض، وإنما للتصعيد من خلال الحديث عن إمكانية استصدار قرار جديد من مجلس الأمن بالتدخل وفق أحكام البند السابع من الميثاق. ولا شك أن الحركة ستكسب، إن استطاعت أن تفرض واقعاً جديداً في مناطق الأحداث الأخيرة أو إن استطاعت فتح الباب أمام أميركا والغرب للتدخل تحت مبررات البند السابع. ويرى كثير من المراقبين أن هناك قادة بعينهم في الحركة الشعبية يجرون حساباتهم وطريقة تعاطيهم مع الأمر وهم مراهنون على العامل الخارجي الأجنبي. وهنالك كذلك قطاع الشمال في الحركة الشعبية الذي له دوافع إضافية حسب المراقبين من بينها الخسائر السياسية التي انهالت عليه بسبب الخسارة في انتخابات جنوب كردفان التكميلية، فخسرت الحركة شريكها الوطني، برفضها المشاركة في السلطة معه وبالتالي بعدها عن دائرة الفعل السياسي التنفيذي في منطقة ينسى أهلها القوى السياسية البعيدة عن دائرة الفعل التنفيذي المثمر ويركزون دعمهم لمن يمنحهم الخدمات الأساسية ويعمل على تنمية وتطوير منطقتهم. كما خسرت الحركة الشعبية حلفاءها المفترضين من القوى السياسية المعارضة "ما يعرف بتجمع جوبا"، فلا هي أجرت تنسيقاً معهم لتضمن على الأقل وقوفهم بجانبها ولا هي ادخرتهم لمثل هذا اليوم ليقفوا في صفها، كما ضعف موقفها تجاه القوى الدولية الداعمة لها بعد إطلاقها وعوداً قوية لهم بانتصارها الكاسح والأسوأ من ذلك أن العملية برمتها كانت تحت الرقابة المحلية والدولية وجرت بنزاهة بحيث لا مجال للطعن في نزاهتها كي تصبح حجة تداري بها الحركة إخفاقها. وفضلاً عن ذلك كله، فالحركة الأم تواجه مشكلات في ظل زيادة حركات التمرد العسكري عليها يوماً بعد يوم، وبالتالي قد يكون الحل ليس في السعي لتسوية هذه الأزمات الداخلية، وإنما البحث عن أزمة خارجية تسهم في نسيان الاحتقان الداخلي، ووقوف الجميع صفاً واحداً خلف النظام في مواجهة العدو الخارجي. ولذلك لا يمكن قراءة حادثة 19 مايو الماضي بالهجوم على قافلة الجيش بابيي والتي دفعته لبسط سيطرته على المدينة ومن بعدها حادثة 6 يونيو بعيداً عن فرضية التخطيط المسبق. بعثة اليوناميد (في الميدان) تذهب كثير من التحليلات إلى أن أحداث أبيي التي سبقت اندلاع الحرب في جنوب كردفان كانت مجرد بداية لجرجرة أقدام الجيش السوداني نحو حرب استنزاف طويلة بغية استجلاب قوات دولية تضع يدها على المنطقة. خاصة في ظل وجود رغبة قوية من جانب الولاياتالمتحدة الأميركية وعدد من الدول الغربية لإيجاد مبرر لبقاء البعثة الأممية (يوناميس) التي طلبت الخرطوم مغادرتها بحلول التاسع من يوليو المقبل ميقات تدشين دولة الجنوبالجديدة. ويدفع في ذلك الاتجاه أن مجلس الأمن الدولي لم يتخذ إلى الآن أي قرار بشأن مصير البعثة رغم إخطار الحكومة السودانية للأمم المتحدة رسمياً بأن على قواتها حزم أمتعتها للمغادرة، بل إن المنظمة الدولية دخلت في مغالطة مع الخرطوم زعمت أن مصير بعثتها بيد مجلس الأمن وليس حكومة السودان. وينافي هذا الموقف مع خطوة سابقة لمجلس الأمن حين سارع بإيجاد موطئ قدم جديد لبعثته من خلال موافقته السريعة على رغبه حكومة الجنوب في بقاء ال(يوناميس) وإصداره القرار رقم (1978) الصادر في مطلع هذا العام بإنشاء بعثة جديدة، بناء على طلب جنوب السودان، تتمركز في الجنوب وتنشأ على أصول ومعدات ال(يوناميس). بيد أن القوى الدولية التي تعمّدت وتتعمّد التلكؤ والتباطؤ في رحيل القوات الدولية يبدو أنها تسعى لفرض وجودها على نحو أو آخر.؛؛؛ الحركة ستكسب، إن استطاعت أن تفرض واقعاً جديداً في مناطق الأحداث الأخيرة أو إن استطاعت فتح الباب أمام أميركا والغرب للتدخل تحت مبررات البند السابع ؛؛؛ ولذلك يصبح منطقياً الحديث عن وجود دور ما لبعثة (يوناميس) في تأجيج الأحداث في أبيي وجنوب كردفان ويعدم ذلك كثير من الشواهد والمعطيات لعل أبرزها إصدار البعثة بياناً وصفت فيه الأعمال التي يقوم بها الجيش السوداني في أبيي وجنوب كردفان بأنها أعمال إجرامية ضد المدنيين، مسارعة البعثة نحو إجلاء 550 من موظفيها وموظفي الإغاثة وغيرهم إلى مقرها وإرسال إشارات مخيفة لمجلس الأمن للتدخل، تعمد تضليل الرأي العام بأن تصريحات وتقارير تضع الجيش السوداني في خانة عدو المدنيين الذي يستهدفهم بأعمال العنف. ومعلوم أن الفصل السابع من ميثاق الأممالمتحدة يبيح التدخل العسكري في حال ظهور الحاجة لحماية المدنيين في مناطق النزاع، ويبدو أن الحركة الشعبية تلعب دوراً كبيراً في هذا الاتجاه، لخلق مثل هذه الأوضاع التي تفتح الباب واسعاً أمام بقاء القوات الأممية والتدخل تحت البند السابع من ميثاق الأممالمتحدة. ولم يعد مستبعداً في حال استمرار حالة التصعيد العسكري أن يصدر مجلس الأمن الدولي قريباً إدانةً واضحةً للحكومة السودانية وقواتها المسلحة تمهيداً لاستخدام البند السابع. ربكة في المؤتمر الوطني يبدو ثمة ربكة في موقف حزب المؤتمر الوطني الحاكم وحكومته، فنائب الرئيس "مهندس اتفاقية نيفاشا"؛ الأستاذ علي عثمان محمد طه، قال في تعليقه على أحداث جنوب كردفان أمام البرلمان "إن الحوار بابه مفتوح وإن من يختار خيار المواجهة فسيعلم أي منقلب ينقلبه". ولكن بعد ساعات قليلة عقد الحزب اجتماعاً لمكتبه القيادي وخرج نائب رئيس الحزب د.نافع علي نافع ليعلن أن المكتب القيادي للمؤتمر الوطني في اجتماعه برئاسة المشير عمر البشير رئيس الجمهورية اعتبر ما يدور في ولاية جنوب كردفان تمرداً مسلحاً وخروجاً عن القانون والدولة، تقوده الحركة بالتخطيط مع قوى أجنبية وبعض قوى المعارضة في الداخل تحقيقاً لطموحات أفراد في الحركة الشعبية، مؤكداً أن هذا المخطط لا سبيل لاستمرار التعامل معه عبر الحوار السياسي مع من وصفهم بمن مارس القتل والضرب. كما أعلن إطلاق يد القوات المسلحة والقوات النظامية الأخرى للاضطلاع بواجباتها في السيطرة على الوضع، مؤكداً أن القوات المسلحة سوف تقوم بواجبها الوطني لحسم كل القوى المتمردة. ويرى مراقبون أن الحسم العسكري ربما يثير مخاوف في أوساط قيادات الحزب من أبناء جبال النوبة الذي يتخوفون على أن يمضي الوضع بأهليهم لمعسكرات لجوء ونزوح على غرار ما حدث بدارفور. أما المخاوف من الحوار فتغذيها الهجمة الشرشة خاصة في الأوساط الإعلامية من كبار الكتاب المعروفين بولائهم للمؤتمر الوطني والانتقادات غير المسبوقة لصانعي نيفاشا. ؛؛؛ الحسم العسكري ربما يثير مخاوف في أوساط قيادات الحزب من أبناء جبال النوبة الذي يتخوفون على أن يمضي الوضع بأهليهم لمعسكرات لجوء ونزوح على غرار ما حدث بدارفور ؛؛؛ وعلى سبيل المثال وصف بعضهم تعامل الحكومة تجاه أحداث كادوقلي ب"سياسة التراخي والتهاون والتلاعب بوحدة البلاد وأمن العباد وأنها -أي الحكومة- قسمت السودان إلى دولتين، ومن بعد كارثة التقسيم وإعلان انفصال جنوب السودان، ما زالت تتهاون في وحدة الشمال وأمنه واستقراره، وما زالت توكل الملفات الدقيقة والحساسة لأولئك الذين جاءونا باتفاقية (نيفاشا) المثقوبة (المعيوبة).. اتفاقية "المسخرة" والهوان". ورأى آخرون أن الموقف الغريب في الأحداث هو موقف الحكومة المتردد المتأرجح، بين السلام الزائف والحرب المعلنة من قبل الحركة الشعبية وجيشها، ووجود من يعشم في التعايش مع قيادات من أمثال الحلو وعرمان وعقار والتي كان من المفترض أن تغادر جيوشها منذ مدة بموجب اتفاقية الترتيبات الأمنية التي ضمنت في الدستور الانتقالي حيث تقول المادة (145) - البند (1) منه: (تُشكل وحدات مشتركة/ مدمجة تتكون من أعداد متساوية من القوات المسلحة السودانية والجيش الشعبي لتحرير السودان، وتشكل الوحدات المشتركة/ المدمجة النواة لقوات السودان في مرحلة ما بعد الاستفتاء إذا ما أكدت نتيجته الوحدة، وإلاَّ فيتم حلها، وتُلحق العناصر المكونة لها بقواتها الأصلية).