الإجابة على هذا السؤال لا يصلح لها أن تكون بلا أو نعم إن لم تسبقها إجابات على عدة أسئلة مثل: كيف نريد أن يكون السودان بعد أن ذهب الجنوب إلى حال سبيله؟. هل نريد دولة سودانية منكفئة على نفسها مزهوة بوهم النقاء العرقي الذي تتألف لحمته وسداه من العنصر العربي؟. أم هل نرغب في دولة سودانية لا ترى الآخر - وخاصة الجنوبي- إلا الشر وقد تجسد في إهابه، أو الشيطان الرجيم يريد أن يغوينا ويطردنا من الجنة التي يصورها الخيال الفقير على أنها ليست سوى دولة السودان بدون الجنوب؟. هل من مصلحتنا أن نترك الجنوب ونهجره وتكون علاقتنا به مثل علاقتنا بيوغندا أو كينيا أو أفريقيا الوسطى؟. أم من المصلحة أن يكون السودان دولة مفتاحية فيما يتعلق بجمهورية جنوب السودان، مثلما أن مصر دولة مفتاحية بالنسبة لفلسطين، أو سوريا بالنسبة للبنان، أو باكستان بالنسبة لأفغانستان؟. هل من الأفضل أن نقطع الصلة التي تقوّت عبر عشرات السنين بين الجنوب والشمال رغم أنف الرصاص والدماء والمعارك، ورغم المرارات التي يجترها الشماليون من أحداث توريت في أغسطس 1955، وتلك التي يرددها الجنوبيون في السنوات التي تلتها؟. أسئلة كثيرة جداً، إن تجاهلناها فإننا لا نستطيع أن نحدد على وجه الدقة شكل علاقتنا بدولة الجنوبالجديدة، أو بتعبير أصح فإنهم هم الذين سيحددون هذا الشكل لتلك العلاقة، وعندها سيصبح الجنوب لعنة الماضي والمستقبل بالنسبة للسودان. نيفاشا لم تجب على الأسئلة من حسن الحظ ومن سوئه أيضاً أن اتفاقية نيفاشا التي أصبحت هي الأساس السياسي والدستوري لقيام دولة جنوب السودان لم تجب على معظم الأسئلة الأساسية التي كانت السبب الذي امتشق الجنوبيون من أجله السلاح. " اتفاقية نيفاشا التي أصبحت هي الأساس السياسي والدستوري لقيام دولة جنوب السودان لم تجب على معظم الأسئلة الأساسية " لو قال قائل إن نيفاشا أجابت – مثلاً- على أهم قضية وهي وقف الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، فإن على هذا القائل أن يتمهل قليلاً، وإن فعل فإنه سيرى الجيش الشعبي قد أشعل فتيل الحرب مرة أخرى في أبيي عندما تربص بالقوات المسلحة عامداً متعمداً قبل فترة قليلة إلى أن تم طرده بعمل عسكري جريء. انتهت مشكلة أبيي مؤقتاً على ما انتهت إليه وما زالت نذر الحرب بين الشمال والجنوب قائمة حتى ولو باحتمالات أقرب إلى الصفرية، ورغم الاتفاق الذي تم في أبيي فإن الجيش الشعبي والحركة الشعبية يتناصران للقيام بفزاعات إعلامية مثل رفع درجة الاستعداد، أو تكوين كتيبة للدخول لأبيي. حروب تحلق في سماء الدولتين وبافتراض أن البندقية قد انخفضت ولم يعد هناك طرف راغب في القتال وخوض المعارك، فإن هناك أنواع أخرى من الحرب تحلق في سماء العلاقة بين الدولتين أبرزها حرب (العملات) التي ابتدرتها حكومة الجنوب دون أن تتدبر عواقبها تماماً مثلما فعلت في أبيي. وبالتسليم إن حرب العملات (الجنيه) ربما تنطفيء، ويتم احتواؤها على وجه السرعة على اعتبار أن الطرفين أظهرا قدرة على طباعة العملة بصورة منفردة دون انتظار الآخر, فمن يدري ربما تندلع حرب أخرى أساسها موضوع المياه أو البترول؟. ولو قال آخر إن الإنجاز الذي حققته الاتفاقية هو تقرير مصير الجنوب، فإن الواقع الشاخص يقول إن الجنوب الذي تم الاتفاق على تقرير مصيره ما زال يجادل في حدوده المنصوص على أنها حدوده كما كانت في الأول من يناير لعام ألف وتسعمائة وستة وخمسين. فها هي حكومة الجنوب قبل أن تنعم بالاستقلال أو الانفصال- لا فرق- ما زالت تطمع في حفرة النحاس ومنطقة جودة والمقينص وكايا، رغم التأكيدات العلمية التي ذكرت مفوضية ترسيم الحدود أنها تشير إلى أن هذه المناطق ضمن حدود الشمال. ولو زعم زاعم أن السؤال المهم الذي وضعت له نيفاشا الإجابة المناسبة هو مسألة الهوية الإسلامية المحضة للشمال، فإن الواقع الشاخص يقول إن الحركة الشعبية في الشمال تريد أن تجعل من المشورة الشعبية ووضع المنطقتين (جبال النوبة والنيل الأزرق) حصان طروادة للوصول إلى صيغة من الصيغ التي تنتقص من مفهوم هذه الهوية الخالصة. التعاطي بين الدولتين رغم كل هذه الأمثلة التي تشير إلى نيفاشا لم تجب على معظم الأسئلة، إلا أن هذه الأمثلة أيضاً ليست ذات وجه واحد من القبح والسوء، ولكنها تحمل أيضاً وجهاً إيجابياً تقول ملامحه إنه لا فكاك - على الأقل في المدى القريب- من التعاطي بين دولتي السودان (جمهورية جنوب السودان، وجمهورية السودان- بدون جنوب)، هذا التعاطي هو ما يمهد الطريق تماماً للإجابة على السؤال الذي جاء على رأس المقال: هل الجنوب دولة غير مهمة بالنسبة لنا؟. " الجنوب يجب أن يظل دولة محورية بالنسبة للشمال، ففي أرضه بذر السودانيون العاديون وليس الحكومات بذرة المصير الواحد والعيش المشترك والوجدان المتشابه "الجنوب يجب أن يظل دولة محورية بالنسبة للشمال، ففي أرضه بذر السودانيون العاديون وليس الحكومات بذرة المصير الواحد والعيش المشترك والوجدان المتشابه، عملوا هناك وباعوا واشتروا وعلموا وتعلموا وانشأوا علاقات إنسانية على هامش الحرب الأهلية مع أخوتهم الجنوبيين يعز مثيلها. الروايات الموثقة والشفهية تحكي روائع عديدة تشير إلى أن العلاقة بين الجنوبيين والشماليين أكبر من أن تنال منها السياسة، وقد سطر كاتب جنوبي في مقام السيد أبيل ألير، جانباً منها بصورة عرضية في كتابه جنوب السودان والتمادي في نقض المواثيق والعهود، وأشار إلى أن هناك جنوبيين خاطروا بحياتهم من أجل إنقاذ اخوانهم وأصدقائهم الشماليين أثناء الحرب. بل إن أحداث أبيي الأخيرة أعادت جانباً من هذه السيرة، فقد روت الأخبار أن قائد الجيش الشعبي المسؤول في القوات المشتركة أصر على مرافقة نظيره من القادة الميدانيين في جانب القوات المسلحة أثناء انسحابه من المنطقة وفاء لعلاقة قديمة تجمعه به. بالطبع فإن هذه الأمثلة لا تصلح لتقوم عليها العلاقات بين الدول، فهي لا تقوم على مجرد القصص العاطفية، وإنما تبنى على المصالح الحيوية التي من شأنها أن تجبر الدول على التعامل والتعاطي مع بعضها رغم أنف الزعماء السياسيين. ولكن هذه الشواهد والأمثلة قوامها عدد هائل من الجنوبيين الذين تشربوا بعادات الشمال وتقاليده، ورتبوا نسق حياتهم وفق المزاج الغالب للسودانيين، وبهذا الوضع فهم فصيل متقدم في رعاية مصالح السودان، وليس هناك مصلحة للسودان أكبر من أن يكون دولة مؤثرة في الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي لجمهورية جنوب السودان. من مصر يمكن أن نأخذ الدرس، فقد استقل السودان عن مصر، فماذا فعلت القاهرة؟. رحبت بالقرار وتعاملت معه كأمر واقع، ولكن ما زالت مصر منذ أن نال السودان استقلاله وحتى اليوم دولة مؤثرة وحاضرة بقوة في كل تفاصيل الشأن السوداني، وليس هناك من سبب لهذا الحضور المصري أكثر من إدراك القاهرة أن السودان دولة مهمة بالنسبة لها. يمكن للسودان أن يفعل ذات الشيء مع الجنوب، ويمكن بكل سهولة أن ينجح في ذلك، ولكن إذا أدرك أن دولة الجنوب مهمة بالنسبة له.