العناصر التي توصلت إلى ضرورة تأسيس الدولة المدنية الاجتماعية الديمقراطية ظلت موجودة داخل الأحزاب السودانية منذ تأسيسها. لكنها كانت تشعر دوماً بالغربة داخل تلك الكيانات التي تنظر لهذه العناصر كخميرة عكننة. نظراً لأنهم يعملون دوماً لتخليص الشعار السياسي من القيد الطائفي والأيدولوجي ولكن هذا غير ممكن. لذا توالت الانقسامات والانشطارات التي أصبحت ميزة للمؤسسة الحزبية في السودان. رهان على السيدين ؛؛؛ فئة من السياسيين مهمومة بالبعد الاجتماعي اصطفت داخل منظومات اليسار وعينها على القوات المسلحة لتوصلها للسلطة حتى تستطيع إنفاذ رؤيتها السياسية ؛؛؛ كان الاعتقاد السائد وسط هؤلاء السياسيين هو استغلال الحزب الطائفي كمنصة لتوصيل أفكارهم وتنفيذها استناداً إلى الاصطفاف الجماهيري الجاهز والقائم أصلاً على الاستلاب الروحي للجماهير تجاه رمز الطائفة أو البيت الطائفي، وهذه قانونية جعلت الانقسامات الحزبية دائماً ما تحسم لمصلحة تلك البيوت رغم وجاهة أطروحات الخارجين عليهم. الفئة الأخرى من هؤلاء السياسيين والتي كانت مهمومة بالبعد الاجتماعي فاصطفت داخل منظومات اليسار كانت عينها على القوات المسلحة لتوصلها إلى السلطة حتى تستطيع إنفاذ رؤيتها السياسية. لكن ما فات على هؤلاء وأولئك هو أن المؤسسات التي اعتمدوا عليها كانت أيضاً لها حساباتها من التحالف معهم. وكان لا بد أن تصطدم تطلعاتهم مع تلك الأهداف والتي دائماً ما تنتصر في نهاية المطاف ويذهب القادمون ويبقى القدامى ويظل المشهد السياسي كما هو حزبان طائفيان، يسار معزول، جنرالات ممسكين بزمام الأمور، أو يتأهبون لذلك، وحركة مسلحة في صقع من أصقاع السودان ومثقفون ومهنيون ساخطون على الأوضاع، ينتظرون لقاء السيدين أو تحركات داخل المؤسسة العسكرية أو أن تصل الأوضاع حداً لا يمكن احتماله فتخرج الجماهير حتى ترجع العسكر إلى ثكناتهم ثم لا يلبسوا أن يعودوا مرة أخرى. دائماً ما تأتي الأمور إلى هذه النقطة ويعجز الحراك السياسي بمكوناته الحالية عن العبور بالأوضاع السياسية إلى النقطة التالية، والتي ترتدي مسميات مختلفة مثل قضايا ما بعد الاستقلال أو شعارات الانتفاضة أو التحول الديمقراطي. الاستلاب الروحي المهم أننا فقط نجحنا في تسمية المهمة وعجزنا في تنفيذها والسبب يعود إلى عدم وجود قوة سياسية تنطلق من تصورات نظرية وسياسية صحيحة حول المهمة وقادرة في نفس الوقت على حشد الجماهير حولها لتقوم في المدى القريب والمتوسط بالتأثير على السلطة السياسية في البلاد وشل تذبذبها تجاه قضايا المرحلة. ؛؛؛ الاستلاب الروحي كان هو الوسيلة الوحيدة في السودان لحشد الجماهير نظراً لضعف التعليم وضعف القطاع الحديث في البلاد واتساع الطابع التقليدي للحياة ؛؛؛ وتستهدف تلك السلطة على المدى البعيد، وهذه القوى السياسية لن تتكون ما لم نقطع مع عقلية الاعتماد على الكيانات الجاهزة بإنجاز بعض المهام اللازمة للتطور السياسي في البلاد نظراً لأن الكيانات الجاهزة لديها مصلحة في استقرار الأوضاع على ما هي عليه ودفعهم إلى التغيير يعني جعلهم يعملون مصالحهم. وهذا غير ممكن لذا يجب فرض التغيير عليهم بخلق تدافع من نوع جديد يجعلهم يبحثون عن صيغة لخدمة مصالحهم بشكل لا يتعارض مع مصالح الجميع والرهان على المستقبل. الاستلاب الروحي كان هو الوسيلة الوحيدة في السودان لحشد الجماهير نظراً لضعف التعليم وضعف القطاع الحديث في البلاد واتساع الطابع التقليدي للحياة في السودان، مما جعل الفعل السياسي يتراوح ما بين المؤسسة العسكرية والطائفتين والحركات التي تحمل السلاح والنقابات واليسار المعزول. لكن خلال ربع القرن الأخير حدثت مستجدات تعمل على خلخلة تلك الثوابت حيث حدث ما يمكن أن نطلق عليه تحديث بالخطأ لم يقصد الذين قاموا به تلك النتائج مثل انتشار التعليم. ظروف جديدة فالمعروف أن النميري قام بالتوسع في التعليم الثانوي فازداد عدد المدارس الثانوية في كل أنحاء السودان، فبرز اختناق في التعليم الجامعي نظراً لأن التعليم الثانوي كانت تغلب عليه الصبغة الأكاديمية فكان على هذا العدد الكبير من الطلاب أن يتنافس على 4 جامعات ومعهد فني. وحين تأخذ تلك الجامعات كفايتها يتوزع الطلاب بين المهاجر المختلفة ويخلد أغلبهم للعطالة المبكرة فيلجأون للحرف أو التجارة أو العمل في القوات النظامية. ؛؛؛ طائفة الأنصار فقد ضعضعت نفوذها عوامل أخرى مثل انتشار الحروب الأهلية في منطقة نفوذها التقليدي في دارفور وكردفان ؛؛؛ جاءت الإنقاذ بثورة التعليم العالي وفتحت أكثر من 36 جامعة إذا نظرنا لها من الناحية العلمية والأكاديمية ربما كانت قيمتها دون المطلوب بكثير لكنها من الناحية الأخرى أتاحت فرصة لعدد من شباب وشابات السودان للالتقاء في مكان واحد طوال 4 أو 5 أعوام بعيداً عن رقابة المجتمع التقليدي بخياراته الجاهزة على كافة الصعد، هذا عوضاَ عن الحوار فيما بينهم حول قضايا البلاد. هنالك رفض واضح وسط هذه التجمعات للاصطفاف السياسي القديم وعلى الرغم من أن طلاب الجامعات في العاصمة والأقاليم يخرجون سنوياً في مظاهرات ضد السلطة لأسباب مطلبية وسياسية إلا أن المنضوين تحت لواء الأحزاب السياسية لا يتجاوز 1% من مجموع الطلاب وهذه دلالة مهمة. المهم أن انتشار التعليم الثانوي والجامعي يشكل فرصة حقيقية للاصطفاف السياسي والتحشيد بعيداً عن الولاء الطائفي والقيود الأيدلولجية مما يشكل فرصة حقيقية لقيام قوى سياسية عقلانية تستند إلى المواثيق والأعراف الدولية دون أن تتعارض مع الأديان السماوية وعلى رأسها الإسلام، واستناد الدولة المدنية الاجتماعية الديمقراطية على سند اجتماعي لا يتناقض مع جوهرها. ضعف الطائفتين نصيب الوسط والسودان النيلي كان كبيراً من انتشار التعليم فانعكس ذلك مباشرة على نفوذ الطائفية الختمية مما جعل الانقسامات داخل الحزب الاتحادي الديمقراطي الذي يعتمد عليها تجنح إلى البعد البرامجي وغلبة الشعار السياسي. ؛؛؛ النميري قام بالتوسع في التعليم الثانوي فازداد عدد المدارس الثانوية في كل أنحاء السودان، فبرز اختناق في التعليم الجامعي ؛؛؛ أما طائفة الأنصار فقد ضعضعت نفوذها عوامل أخرى مثل انتشار الحروب الأهلية في منطقة نفوذها التقليدي في دارفور وكردفان حيث جمعت حملات الحكومة لاستئصال تمرد الأهالي الموزعين على مختلف القرى والفرقان ويصعب الوصول إليهم والتأثير في انحيازاتهم القديمة داخل عدد محدود من المعسكرات حول المدن الرئيسية في إقليم دارفور وربطتهم بما يدور في العالم ومن حولهم عن طريق القنوات الفضائية والتقنية الحديثة، كما خلقت لهم هدفاً واحداً وظروفاً حياتية متشابهة. وربما تكون خياراتهم في هذه الفترة خاطئة لكن على حال الطريق للتعامل معهم عن طريق طرح الأفكار والبرامج السياسية قد انفتح ولن ينسد مرة أخرى وهذا التحول وإن لم تعمد إليه الإنقاذ لكنه ليس في صالح قوى السودان القديم كلها لأن أطروحات تلك القوى تتلاشى بمجرد تعريضها للنقاش وإن غلبتها على الساحة ناتجة من ميزات المقارنة التي يعطيها لها المحيط التقليدي الذي يدور فيه الصراع وليست لصحتها. كما أن الظروف الحالية أتاحت لأبناء السودان عن طريق الهجرة والوسائط الحديثة الاتصال بثقافات ومجتمعات مختلفة وعرفوا أن هناك تقاطعات بين الاجتماع البشري عابرة للثقافات والأديان وأن هناك نوع من الحكم وشكل الدولة تواضعت عليه البشرية وأسمته بالحكم الرشيد وهو وحده الصالح لإدارة البشرية بطريقة تحفظ كرامة الإنسان وتحقق رفاهيته. مستقبل الديمقراطية خلاصة القول أن الوعي الاجتماعي في السودان ارتفع بحكم التحولات السالبة والموجبة التي وقعت خلال الحقبة الأخيرة وبصورة تجعلنا نطمح في اصطفاف سياسي جديد وإهدار هذه الفرصة يعني منع المجتمع من الاستفادة من إمكانياته الذاتية في النهوض وتجاوز العقبات التي تقف في سبيل وحدته وتطوره. ؛؛؛ الديمقراطية مستقبلها لن يأتي إلينا إذا انتظرناه ولكن يجب أن نذهب إليه, كما أن هنالك إمكانية توفرها مؤشرات التطور الموجبة والسالبة في الحياة الاجتماعية ؛؛؛ تجربتنا السياسية تشير وبوضوح إلى أن كل محاولات تجاوز الديمقراطية بمختل المسميات والشعارات انتهت خلفها لأن واقعنا المتنوع يحتاج إليها حوجة ماسة لإدارة هذا التنوع. لكن الديمقراطية ظلت تواجه مشكلتان هما ابتعادها عن مضمونها الاجتماعي وعزلة الكيانات السياسية التي تعبر عن ذلك المضمون وميلها إلى المغامرة السياسية وتبني استراتيجيات حرق المراحل واختصار الطريق. ففي الأولى توصل الديمقراطية الأحزاب الطائفية للسلطة وتقوم تلك الأحزاب بإفراغها من محتواها وجعلها تعمل في خدمة مضمون اجتماعي يتناقض معها مما يجعلها عرضة للمغامرين دون أن تتأسف عليها الجماهير التي ترى أن حياتها لم تتحسن في ظل الحكم الديمقراطي. وفي الحالة الثانية نتجاهل القوى الاجتماعية الديمقراطية لأنها ليست من بنات أفكارها فتكون خدمة المضمون على حساب الشكل وسرعان ما يتم التراجع عن ذلك المضمون لانعدام الرقابة الشعبية لذا فإن هذا التناقض ينتظر بروز قوى سياسية تغرس أرجلها في التربة الشعبية وتتجاوز التخندق الانعزالي لقوى اليسار وتعيد الانسجام بين شكل الديمقراطية ومضمونها الاجتماعي وتطمح في منافسة الكيانات الطائفية على كسب تأييد الجماهير بالاستناد إلى سلامة طرحها السياسي والابتعاد عن القيود الأيديولوجية الاجتماعية التي أشرنا إليها. مستقبل الديمقراطية لن يأتي إلينا إذا انتظرناه ولكن يجب أن نذهب إليه، إذاً هنالك ضرورة اجتماعية وسياسية لقيام تجمع الوسط السياسي كما أن هنالك إمكانية توفرها مؤشرات التطور الموجبة والسالبة في الحياة الاجتماعية وهذه الضرورة تنتظر أن يخرج المثقفون والمهنيون من ذواتهم وينظرون إلى واجباتهم والدور الذي يجب أن يقوموا به داخل مجتمعهم والذي يشكلون رافعه من روافع تطوره.