صاحب رحيل الفنان المغني محمود عبدالعزيز، الملقب بالحوت، صدى كبير شغل الناس. انشغال الناس بذلك الرحيل سببه أن الراحل هو فنان مغنٍ، كانت له شعبية ضخمة سيما في أوساط الشباب (فنان الشباب لقب آخر يطلق عليه)، والسبب الثاني لانشغال الناس هو تلك الملابسات المأساوية والتي صاحبت رحلة فراقه للحياة. وكان ذلك منذ الإعلان عن دخوله لإحدى مستشفيات الخرطوم "رويال كير" طلباً للعلاج، ثم ما تواتر عن جراحة خضع لها وتداعياتها الطبية، ثم الإعلان عن سفره إلى الأردن لاستكمال العلاج. تهيئة خبر الوفاة لم تكن الأخبار التي وصلت من عمان- الأردن، أكثر من تهيئة لخبر وفاة الفنان، فقد سبقت الشائعات التي خاضت في تفاصيل حالة الفنان الصحية الحرجة منذ نقله من الخرطوم، وسادت الأجواء سحابة من الترقب القلق المصحوب بالتشاؤم، ازداد خلال الساعات الاثنين والسبعين السابقة للإعلان الرسمي عن وفاة "الجان" (وهو لقب ثالث كان يطلق عليه). ترقب الناس للأخبار القادمة من عمان، إعلان مستشفى "ابن الهيثم –عمان"، أن الفنان في حالة موت "سريري"، زاد من حالة الترقب القلق لدى الناس الذين تناثروا بين الرجاء والدعوات وبين الاستغراق في اليأس مصحوباً بتداول سيرة الفنان وكأنما قضي الأمر، حتى تمَّ الإعلان عن وفاته بشكل رسمي موثق في وسائل الإعلام يوم الخميس 17/1/2013. وتبع الإعلان عن الوفاة تدافع الناس نحو المطار انتظاراً لوصول الطائرة الرسمية التي تم إرسالها لنقل جثمانه من عمان. الناس تدافعت للمطار تحركها حالة الحزن وحالة أخرى قد تكون هي اليأس أو الغضب الذي تمثل في مراسم التشييع إلى حد الهتاف السياسي، الأمر الذي كسا حدث الوفاة بكساء تأويلات أخرى. ؛؛؛ الشائعات التي سبقت وفاته خاضت في تفاصيل حالته الصحية الحرجة منذ نقله من الخرطوم، وسادت الأجواء سحابة من الترُّقب القلق المصحوب بالتشاؤم ؛؛؛مجال التأويلات رحيل الفنان الشاب المولود عام 1967 بحي المزاد- بحري، جدد المألوف من عادة الناس في مجتمع تتحكَّم فيه ردود الفعل العاطفية. وخاصة تجاه الأحداث الكبيرة والتي يصحبها ضخ معلوماتي من المخيلة الجماعية تختلط فيه الحقائق الموضوعية مع الرغبة في التأويل بحسب المألوف وبحسب الرغبة المسبقة لا بحسب الحقيقة الماثلة أمام عين العقل. انفتح مجال واسع للتأويلات حول الحالة الصحية ل"حوتة" (وهو لقب رابع للفنان- المغني الراحل كان يستخدم تخفيفاً وتلطيفاً وإعجاباً)، منذ بداياته في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي وصولاً إلى تألقه كقمة من قمم غناء عقد التسعينيات وحتى الأعوام العشرة الأولى من الألفية الراهنة. هل كان محمود في حالة حرجة صحياً لحظة دخوله مستشفى رويال كير؟ أم أن خطأً طبياً قد صحب تلك العملية الجراحية التي استتبعت دخوله للعناية المكثفة؟ هل كان مرضه في مرحلة حرجة يصعب التحكم فيها طبياً بسبب إهمال شخصي صاحب حياته الشخصية، مما لا بد للطب والتطبيب في التحكم فيه. جهد إعلامي مضاعف صورة الفنان كضحية لخطأ طبي –محتمل– فرضت على إدارة المستشفى الخرطومي جهداً إعلامياً مضاعفاً بالإعلان عبر المقابلات الصحفية وعبر التصريحات عن الحالة التي دخل بها الفنان الراحل للمستشفى والمعالجة الطبية التي تم اتخاذها لحين نقله للأردن- عمان. انطلقت الشائعات عن علاقة المستشفى بجهات ذات نفوذ في الحكومة وتواترت التساؤلات عن سر الاهتمام الزائد بحالة محمود عبدالعزيز سيما وأنه لم يكن من المؤيدين بشكل كامل للحكومة بل كان في أكثر من مناسبة في مواجهة عقوباتها التي تناقضت وسلوكه الشخصي. هل كان الحزن الخالص هو دافع الجمهور الذي تدافع نحو المطار لانتظار جثمان الراحل؟ أم أن هناك حالة غضب تبحث عن أي حدث كبير كمتنفس؟ أم أن هناك بحثاً عن رمز؟ أي رمز تتوق له الناس ولا تجده؟ ؛؛؛ رحيل الفنان الشاب جدد المألوف من عادة الناس في مجتمع تتحكم فيه ردود الفعل العاطفية وخاصة تجاه الأحداث الكبيرة ؛؛؛صورة عاطفية صاحبت وفاة الفنان محمود عبدالعزيز مادة إعلامية غزيرة. استخدمت الصحف المقال والصورة. المادة المكتوبة في غالبها الأعم كانت عاطفية ولم تستطع النفاذ لأي تحليل عقلاني حول الحادث. مادة عاطفية منحازة إلى مريض يحتضر يحتاج للدعاء والناس تسيطر عليها العاطفة والبساطة والرغبة في إبداء التعاطف. استخدام الصورة الصحفية تم بشكل مكثف: صورة كبيرة في مساحة أكبر من المعتاد مع التركيز على ملامح وجه وجسد الفنان التي سيطر عليها المرض. أثارت بعض الصور ردود فعل غاضبة من قبل الناس. تلك الصور التي نشرتها بعض الصحف لصحفيين استطاعوا الوصول للفنان وهو في فراش مرضه في المستشفى الخرطومي. رد الفعل الغاضب كان يشير إلى أن صورة الفنان- المغني تؤكد أن حالته الصحية لا تبشر بخير. وهو الأمر الذى يشير لحقيقة أخرى في السلوك الجمعي للناس وهو تكذيب الأخبار السيئة المتوقعة -مهما كانت درجة اقترابها- وتعرضت في حينها الصحف التي نشرت صورة الفنان في مستشفاه الخرطومي لنقد كونها تتاجر بحالة إنسانية دون أدنى اهتمام بمشاعر جمهور الفنان- المغني، أو أصدقائه، أو أهله وأسرته. صحفيون في عمان استخدام الصورة فاق حدَّ الصورة التي تم التقاطها في مستشفى "رويال كير". واستطاع صحفيون الوصول إلى عمان– الأردن ووصلوا إلى مستشفى ابن الهيثم وذلك قبل الإعلان عن وفاة محمود عبدالعزيز. وبحسب ما نشروه فيما بعد، فإن دافعهم لنشر صورة جثمان "الحوت" كان مهنياً من زاوية التوثيق ولم يكن لهم أي مصلحة سلبية تتناقض وما يسيء للفنان أو إلى أسرته أو أصدقائه أو جمهوره. غير أن رد الفعل الغاضب –جماعياً- لم ير سوى أن للموت حرمةً وقداسةً تسبق المهنية الصحفية والتوثيق الذي برر به الصحفيون التقاطهم صوراً لإنسان فارق الحياة، الأمر الذي لم يعتاده الناس من قبل. ؛؛؛ الشائعات انطلقت عن علاقة المستشفى بجهات ذات نفوذ وتواترت التساؤلات عن سر الاهتمام الزائد بحالة محمود عبدالعزيز ؛؛؛ابن الهيثم ترد وبذلك فتحت الصورة ملفاً جديداً حول سلوك السودانيين مابين التقليدية وبين استغلال كل شيء -حتى الموت- للحصول على مكسب دنيوي. اضطر مستشفى ابن الهيثم إلى إصدار نفي رسمي على لسان المدير المسؤول عن شؤون المرضى، قال فيه إن مستشفى ابن الهيثم لم يسمح بالتقاط الصورة التي نشرت للفنان الراحل وهو ميت. وكان مستشفى ابن الهيثم يرد أيضاً على التساؤل الذي بعثت به السفارة السودانية في الأردن لإدارة المستشفى بشأن السماح بالتقاط صورة لمريض قد توفي في المستشفى. تصريح مدير شؤون المرضى بمستشفى ابن الهيثم، أكد أنهم لا يسمحون بمثل هذه الأفعال المنافية للأعراف والتقاليد وأن الصورة تم التقاطها في مشرحة المستشفى الأردني. تغطية غير مسبوقة الرحلة الأخيرة للفنان تمت تغطيتها إعلامياً من قبل الإذاعة، ومن قبل القنوات التلفزيونية. الإذاعة استخدمت السرد المتتبع لحياة الفنان الراحل على خلفية موسيقية تبعث على الأسى وتحرض الحزن. واستضافت الإذاعة بعضاً من أهله ومعارفه وأصدقائه، وحرصت على أن لا تقدم مقاطع مما تغنى به اتباعاً لقاعدة أن المقام لا يسمح بذلك. ؛؛؛ جثمان الفقيد لم يشيَّع من المنزل، بل إنه لم يصل أصلاً إلى منزله وذلك تفادياً للحشود التي كانت ترابط أمام المنزل في انتظار وصول الجثمان ؛؛؛ واتبعت القنوات التلفزيونية نفس الخطوات في ضخ مادة إعلامية بذات التفاصيل المهنية- الفنية: استضافت اشخاصاً للحديث عن سيرة الراحل، مع استخدام الصورة كخلفية للحديث وساد اللون الأسود كرمز للحزن وحالة الحداد. صاحبت الصورة الثابتة ل"الحوت" صور لفظية لا تنقطع، وكان ذلك من خلال وسائل الاتصال المتعددة عبر الشاشة، إذ لم تتوقف للحظة رسائل الناس تعزي في وفاة الفنان، وقدمت أشكال الاتصال الجديدة "مواقع الفيس بوك- تويتر- الصحف الإلكترونية" خدمة متواصلة عن الفنان ورحيله، من خلال ضخ مواد متعددة ومختلفة في أسلوب تناولها للحدث. ؛؛؛ الصورة الثابتة ل"الحوت" صاحبتها صور لفظية- لا تنقطع وكان ذلك من خلال وسائل الاتصال المتعددة عبر الشاشة ؛؛؛ تفادي الحشود الغاضبة بلغ رد الفعل العاطفي قمته عند وصول الجثمان لمطار الخرطوم. وما تواتر عن تضليل للناس عن لحظة الوصول ومكان تسليم الجثمان لأهل الفنان الراحل وكان ذلك بغرض فض الجموع المحتشدة. أوردت الصحف أن الطائرة التي كانت تحمل جثمان المغني الراحل تلقت توجيهات بالهبوط في مهبط مدينة الحجاج وهو غير المهبط الرئيسي والمألوف، كما أفادت صحف أخرى بأن تشييع الجثمان لم يتم من المنزل، بل إن جثمان الفقيد لم يصل أصلاً إلى منزله وذلك تفادياً للحشود التي كانت ترابط أمام المنزل في انتظار وصول الجثمان. واضطرت السلطات إزاء الأحداث التي سبقت وصول الجثمان بين الشرطة والجماهير، إلى تغيير في خطة الدفن، ولكن ما حاولت السلطات تفاديه في المطار لم تستطع تفاديه في المقابر وعند الدفن. فقد ظهرت صورة أخرى ل"الجان"، والناس تهتف هتافاً سياسياً غاضباً، مما اضطر الشرطة لإبعاد من يهتفون سيما وأن المراسم الجارية هي -مراسم دفن- بما تستوجبه من روحانيات الدعاء للمرحوم وتلاوة القرآن والتهليل وترديد المأثورات وكل ما يستوجبه الدين ومهابة الموت التي هي أبعد ما تكون من المطالب السياسية الدنيوية. ؛؛؛ صورة الحوت ستظلُ تُنتج صوراً أخرى... ففي بلدٍ تُسيطر فيه الأحكام العاطفية على الغالبية العظمى سيظل حدث كهذا منجماً لا ينضب لاستخراج مختلف الصور ؛؛؛ملابسات لا تنتهي لم تنته ملابسات رحيل محمود عبدالعزيز بالدفن، إذ ظهرت صورة في مساحة كبيرة بصحيفة خرطومية معروفة ومع الصورة بيان من أهل الفنان بتقديرهم لدور مستشفى رويال كير وجهدهم في علاج الراحل. وشملت الصورة إداريين من المستشفى وأطباء وأقرباء الفنان وبين أيديهم شهادة... والصورة تنفي أي شبهة لعدم رضاء أسرة محمود عن دور المستشفى في العلاج. صورة الحوت ستظل تنتج صوراً أخرى، ففي بلد تسيطر فيه الأحكام العاطفية على الغالبية العظمى سيظل حدثٌ كهذا منجماً لا ينضب لاستخراج مختلف الصور ما بين وهم ووقائع تفتقر للدليل وحكايات تنتظر الوثيقة، صور عن: أزمة الفن والفنانين وسلوكهم الشخصي وصورتهم العامة، صور عن أزمة المستشفيات وعلاقاتها بالناس وتعاملها معهم مابين الخطأ الطبي وبين القضاء والقدر، صور عن عالم المال والفن والصحافة وعن تدخل السياسة لضبط هذه العوالم وتوجيهها لمصلحتها.