أثارت البرامج المسماة (توك شو) أول ظهورها في أميركا تعليقاتٍ وردوداً لدى الأكاديميين ونقاد وسائل الإعلام. ولئن استطاع الإعلام الأميركي أن يرسي بعض القواعد المهنية، فإن هذه البرامج في القنوات الفضائية العربية لا تزال تعيش غياباً تاماً للمهنية والموضوعية، إن لم نقل الخروج على قواعد الذوق والمنطق السليم. ولا شك أن الأوضاع السياسية غير العادية التي أظلت دول ما سمي بالربيع العربي، أظهرت نوعاً من المعايير التحريرية المشكوك فيها لحدٍّ كبير من حيث الخطاب والأداء والمشهد. شكل حوار مميّز مع أن الشكل الحواري هو المميز لهذه البرامج، إلا إنه في واقع الأمر أبعد ما يكون عن مواصفات الحوار مثل وجود الحدٍّ الأدنى المشترك بين طرفي الحوار، واحترام الرأي المخالف وتحرير مواضع الخلاف، وتطوير النقاش وتوجيهه أثناء البرنامج لتحقيق أهداف معينة، والتوصل إلى استنتاجات تفيد المشاهد إن لم يتحقق الوصول إلى اتفاق أو تفاهم. ؛؛؛ الشكل الحواري الذي يميِّز هذه البرامج، أبعد ما يكون عن مواصفات الحوار مثل وجود الحدٍّ الأدنى المشترك بين طرفي الحوار ؛؛؛وترتفع النبرة إلى حدِّ الهياج وتبادل المفردات والتعابير الخارجة من السباب والشتائم، وقد ينتهي اللقاء التلفزيوني إلى اشتباك بالأيدي. هذه البرامج أداؤها مرتجل وينقصها الإعداد، حيث تبث البرامج حيَّة على الهواء مع مداخلات هاتفية قد تضفي المزيد من الإثارة والحرارة، لا سيما في أوقات الهيجان السياسي والتظاهرات. سمة التحيُّز ويسيطر التحيُّز الحزبي على مقدمي البرامج. يظهر ذلك في أسلوب توجيه الأسئلة للضيوف، واستضافة شخصيات بعينها. وفي حالة وجود رأي مخالف، يعمُد المقدم إلى تسفيه هذا الرأي ومقاطعته في خروج لافت عن معيار الحياد الذي ينبغي أن يتحلى به مقدِّم البرنامج. وتُعد المشهدية من سمات هذه البرامج، فالتركيز ليس على محتوى الخطاب بل على الشكل والديكور وإضفاء جو (مسرحي) بتجنيد مشجعين من المرافقين الهواة والزائفين أحياناً، وانتقاء ضيوف يبرعون في الجدل. وهناك دائماً ضيوف نجوم تحت الطلب، بعد أن أصبح الظهور في هذه البرامج مهنة تدر دخلاً مالياً محترماً. وغالب مقدِّمي هذه البرامج من غير المتخصصين، ففي القنوات المصنَّفة أنها إسلامية، يكون مضيفو البرامج الحوارية من الخطباء والدعاة، وهؤلاء وإن برعوا في الأداء الخطابي المنبري، فإنهم غير مدربين على الأداء الحواري. والمضيف النجم هو أهم شخصية في المشهد التلفزيوني، وبعضهم يقدِّم نفسه على أنه جزء من المشهد السياسي، بل يتحوَّل بعضهم إلى زعماء. دواعي الانتشار من أسباب ظهور هذه النوعية من البرامج: ؛؛؛ التحيُّز الحزبي يسيطر على مقدمي البرامج، ويظهر ذلك في أسلوب توجيه الأسئلة للضيوف، واستضافة شخصيات بعينها ؛؛؛ ثمة أسباب لانتشار هذه النوعية من البرامج، منها: تحول منصات التلفزيون إلى ساحة معركة للأفكار والأجندات المتنافسة. وكما تلاحظ مجلة (فورين بوليسي، أكتوبر 2013م)، أن: "البرامج الحوارية الجديدة صارت تمثل طقوساً يومية أساسية للمشاهدين المصريين، ويبقى السؤال الأهم هو كيفية التوفيق بين المعايير المهنية والخطاب الذي يشتبك مع أجندة سياسية؟ وذلك بدخول ثقافة المناظرات الشعبية بعد أن كانت وسائل الإعلام محتكرة للنخبة". لقد تحوّل محتوى التلفزيون العربي تحولاً كبيراً في السنوات الأخيرة. قديماً كانت موجهة غالباً لتمجيد الحاكم، ولتأكيد أن كلَّ شيء على ما يرام، أما السهرات التلفزيونية فكانت طرباً وفكاهة أو أفلاماً تنتهي نهاية سعيدة، وينام المواطن قرير العين. كوارث قبل النوم على أيامنا هذه لا ينام المواطن إلا على أسوأ ما عنده، بعد أن يكون منتجو البرامج التلفزيونية قد جمعوا له كلَّ الكوارث والأشياء المرعبة التي حصلت في ذلك اليوم، ثم أتبعوا كلَّ ذلك ببرنامج (حواري) مليء بالإثارة الضارة والنقاش البيزنطي. أي قنوط يمكن أن يصيب هذا الإنسان، وأي تثبيط لعزيمته وهمته؟ إن موضة القنوات الفضائية الخاصة، واشتداد التنافس بينها للاستحواذ على جمهور محدود، وسوق محدودة للإعلان تدفع إلى المزيد من الإثارة للمزيد من الجمهور ومن ثم الحصول على أكبر عائد من الإعلانات التجارية. يمتلك هذه القنوات رجال أعمال يدافعون عن مصالحهم التجارية وعن نفوذهم في المجتمع، وبإمكانهم أن يدفعوا مقابل إنتاج هذه البرامج دون النظر إلى عامل الربح والخسارة. وهناك القنوات التي تملكها أحزاب أو جماعات دينية، ومن الطبيعي أن تنتفي استقلالية نجوم برامج (التوك شو)، إذ يكون الولاء للمال وصاحب المال، ويتحول المضيف النجم إلى مهيّج سياسي أو ديني يتبارى في شتم وسب الخصوم. ؛؛؛ الخطاب الإعلامي يستمد نبرته وأساليبه وموضوعاته من المجتمع وسياق تطوره التاريخي، فبعض البرامج التي تكون ملائمة في الغرب لا تكون كذلك في مجتمع آخر ؛؛؛السعي وراء الربح ومن المعروف أن إنتاج هذا النوع من البرامج غير مكلِّف مالياً، وإذا نجح البرنامج فإنه مربح لدرجة كبيرة، وقد سيطر السعي وراء الربح التجاري على القنوات الفضائية، مما أدّى إلى مضامين هابطة المستوى، واستغلت الأحزاب السياسية والطوائف الدينية مناخ الفوضى ولا نقول الانفتاح لإطلاق قنوات لا هويّة واضحة لها وسعت إلى تسويق توجهاتها الفكرية والعقائدية. ويزداد الأمر سوءاً مع غياب القوانين والمؤسسات المهنية القادرة على التوجيه. ويكاد يجزم المراقب الحصيف أن هذه البرامج لو تخضع للقانون، فإنها تصيب القنوات التي تنتجها بالإفلاس والتوقف عن البث. هل كانت محاكاة للغرب؟ وقد يتساءل المرء هل صار إعلام بعض الدول العربية إلى هذا الوضع بسبب محاكاته للنموذج الغربي؟ يبدو أن بعض البرامج الحوارية العربية ما هي إلا نسخة معرّبة من سبرنجر شو. خطاب إعلامي متجاوز لكن ليس الأمر كذلك بالضبط، إلا إذا كانت المحاكاة للجوانب السلبية فقط، فهناك في البرامج الغربية جوانب إيجابية مثل ضبط الجودة والتخطيط، والتنافس على أساس تضمين البرنامج محتوىً فنياً إبداعياً وتوجيهياً وتعليمياً، والاحتراز الشديد من الوقوع تحت طائلة قانون السب والقذف لأن ذلك يعني تحمل غرامة هائلة. الخطاب الإعلامي يستمد نبرته وأساليبه وموضوعاته من المجتمع وسياق تطوره التاريخي، فبعض البرامج التي تكون ملائمة في الغرب وأميركا بالذات لا يمكن أن تجد المقبولية ذاتها في مكان آخر! بل إن الناس في أوروبا نفروا من محاولات لإدخال الذوق الأميركي وأنماط الإدارة الأميركية بالمصانع (أميركان تمبو)، فما بالك بأنماط السلوك والخطاب! والخطاب الأميركي في عمومه خطاب خارج ومتجاوز لا يقيم اعتباراً لآداب الحوار. التشبَّه بالتابلويد عندما ظهرت برامج التوك شو في أميركا أوائل التسعينيات، تناولها غير واحد من الأكاديميين، باعتبارها مجرّد محاولة لاغتصاب عرش صحافة التابلويد فيها تطور للحديث التلفزيوني، وعندما ذهبت الأمور بعيداً بدأ هؤلاء المهنيون والأكاديميون ينبِّهون إلى ما يعتري برامج التوك شو من تدني الخطاب الإعلامي، خاصة بعد أن تسلّم زمامها نجوم كوميديا من أمثال جوني كارسون الذي أمضى 30 سنة في تقديم برنامج (تونايت شو). وظهرت برامج فاضحة تتنافس على الإثارة مثل برنامج جيري سبرنجر، الذي قامت فكرته على استضافة أشخاص بينهم خلافات وفي الأغلب يكونون نساء، ويمضي المذيع مع الجمهور في التحريش بينهم، فترتفع الأصوات، وتقع معارك ومشاجرات وسط صيحات الجمهور. ويتخلل البرنامج مشاهد خليعة ونكات وفضائح. ؛؛؛ الأكاديميون نبهوا إلى ما يعتري برامج التوك شو من تدني الخطاب الإعلامي، خاصة بعد أن تسلّم زمامها نجوم كوميديا من أمثال جوني كارسون ؛؛؛تفسير السقوط ووجد هذا التوجه استنكاراً وانتقاداً في أميركا. قرأت لأحد النقاد الأكاديميين قوله إنه بات يدرك التفسير الحكيم لسقوط الدولة الرومانية، ألا وهو انتشار هذا النوع من النقاش البيزنطي. ويُذكر أن وزير التعليم الأميركي دعا إلى مقاطعة ما وصفه بتفاهات التعليقات التلفزيونية التي تتصف ب"قلة الذوق" والانحطاط المهني والأخلاقي. أما وزير الصحّة فقد اجتمع بمنتجي هذه البرامج وطالبهم بتهذيب الخطاب والتزام جانب الاعتدال حفاظاً على الصحة النفسية للمشاهدين. ؛؛؛ وزير التعليم الأميركي دعا إلى مقاطعة ما وصفه بتفاهات التعليقات التلفزيونية التي تتصف ب"قلة الذوق" والانحطاط المهني والأخلاقي ؛؛؛لقد أخذت برامجنا العربية من الأميركيين كلَّ سيئاتها من العنف اللفظي، وممارسة الابتزاز والتهديد والإغراء، وخرق خصوصيات الفرد، واختلاق أحداث غير موجودة لمجرد الإثارة أو السبق. ما الحل... وهل نكتفي بإدانة الانحراف؟ إدانة الانحراف الموجود في وسائل الإعلام، أمر ضروري. فهذه البرامج لها تأثير ضار على القواعد الثقافية، لأنها ببساطة تقدِّم الخطأ والشيء السيء على أنه الأداء التلفزيوني الصحيح، فيفقد الجمهور قدرته على التمييز، كما يفقد إحساسه بالحقيقة وبالمعاناة الإنسانية. وأخطر من ذلك تحطيم الحس النقدي لدى المشاهد العادي، فيكون أكثر قابلية للتأثر بالأحكام الخاطئة وللتضليل الإعلامي. لكن، هل نكتفي بالإدانة؟ لا، وإنما نسعى إلى توضيح الجيد من غيره والأصيل من الزائف، وتقديم القيم الإيجابية للخطاب الإعلامي وأساليب الأداء الصحيحة. تفعيل المهنية الإعلامية ونستطيع توظيف القوة الشعبية التي تمتعت بها برامج (التوك شو) لتلعب دوراً محورياً في نشر المعلومات والأخبار الصحيحة بين العامة التي كانت مقتصرة طويلاً على النخبة. ؛؛؛ المؤتمر العالمي للإعلام الإسلامي سيلتئم في ديسمبر القادم بأندونيسيا تحت عنوان: "الإعلام والمجتمع"، وسيكون من بين موضوعاته؛ قضايا الممارسة المهنية الإعلامية ؛؛؛ هنالك دعوات في غير مكان من العالم العربي نحو تفعيل المهنية في وسائل الإعلام، وقد رصدنا في تونس ومصر محاولات لتنظيم لقاءات علمية رصينة لمناقشة قضايا الإعلام في ظل التحول الديمقراطي، ولكن الظروف السياسية لم تسمح بقيامها حتى الآن. ويجدر التنويه إلى منصة إعلامية عالمية يمكن الاستفادة منها هي المؤتمر العالمي للإعلام الإسلامي الذي ينعقد كل سنتين في جاكرتا، والذي يتشرف كاتب هذه السطور بعضوية لجنته الإعلامية. مثل هذه المنصة صالحة للتداول العلمي الرزين. حول الممارسات المهنية الإعلامية. وسيلتئم المؤتمر العالمي للإعلام الإسلامي في دورته الثالثة خلال شهر ديسمبر القادم بالعاصمة الأندونيسية تحت عنوان: "الإعلام والمجتمع"، وسيكون من بين موضوعاته؛ قضايا الممارسة المهنية الإعلامية، سعياً من رابطة العالم الإسلامي للقيام بدورها في تأصيل الإعلام وتطويره.