في فناء مجمَّعٍ صغير بقرية جيتا الواقعة على ارتفاع 1,7 ميل فوق سطح البحر في جنوب إثيوبيا، نشاهد أعضاء جمعية تعاونية زراعية محلية وهم يقومون بدرس محصول الشعير وغربلته، حيث أن قشور حبوب هذا المحصول تذروها الرياح الشديدة التي تهب على الجبال. وتوجد خلف ظهور هؤلاء العاملين لوحة مثبتة بشريط على جدار مخزن التعبئة تحمل كلمتين بلغة الكانجي اليابانية (كاي زن). ومعنى هاتين الكلمتين المكتوبتين بقلم "الماركة" هو "التغيير للأفضل"، وهما يشيران إلى فلسفة إدارية يابانية، تؤكد الابتكار والتحسن المستمرين في مجال النشاط الاستثماري. ولكن من المفارقة، أن يكون هذا المشهد في منطقة تغلب عليها الزراعة ذات النطاق الضيق، حيث تزيد الدخول بالكاد على خط الفقر البالغ 1,25 دولار في اليوم. وتعتبر قرية جيتا -الواقعة على مسافة ساعتين بسيارة الدفع الرباعي عبر منطقة وعرة من الأراضي الزراعية والغابات المخصصة لحطب الوقود- موئلاً لمشاريع قليلة متناثرة تديرها الوكالة اليابانية للتعاون الدولي. مشاريع إنتاجية وأي مشروع من هذه المشاريع هو نتاج بضعة آلاف من الدولارات المخصصة للاستثمار، حيث تم التخطيط لتحويل المزارعين -الذين يعيشون على الكفاف ويعتمدون على الزراعة الإعاشية- إلى صغار رجال أعمال بإمكانهم دعم أنفسهم مالياً باستخدام الخبرات الإدارية المستوردة من اليابان. وعلى بُعد أميالٍ قليلة من القرية يرتفع غبار الأسمنت فوق التلال الترابية الحمراء، حيث تقوم شركة صينية بإنشاء طريق معبَّد بتكلفة عدة ملايين من الدولارات، إذ من شأن هذا الطريق ربط هذه القرية النائية بمدينة وولكايت المجاورة، ثم صاعداً إلى مدينتي دبري زيت وأديس أبابا. وفي هذا يقول بادروم شيكور رئيس الجمعية التعاونية لزراعة محصول الشعير: "إن الطريق سيعمل على تغيير اقتصادات المنطقة رابطاً المزارعين بالأسواق الحضرية حتى عندما تجعل الأمطار الموسمية الطرق الترابية غير سالكة". النشاط الاستثماري " رئيس الوزراء الياباني قام في يناير بزيارة إلى أفريقيا حظيت بتغطية إعلامية مكثفة، حيث التقى خلال زيارته بالقادة الأفارقة ووعدهم باستثمارات ضخمة " هذا النشاط الاستثماري يصوّر التباين بين استراتيجيات العملاقين الآسيويين في أفريقيا، كما يصور التّحديات التي تواجهها اليابان في الوقت الذي يندفع فيه رئيس وزرائها شينزو آبي نحو خلق نفوذ أكبر في القارة. ففي مايو عام 2013، أعلن شينزو آبي تخصيص مبلغ 32 بليون دولار تمويلاً عاماً وخاصاً لأفريقيا، ويشمل هذا المبلغ 14 بليون دولار عبارة عن مساعدات تنموية و6,5 بلايين دولار لمشاريع البنى التحتية. وقد قام رئيس الوزراء الياباني في يناير بزيارة إلى أفريقيا حظيت بتغطية إعلامية مكثفة، حيث التقى خلال زيارته بالقادة الأفارقة ووعدهم باستثمارات ضخمة. وتعتبر الزيارة تحولاً مفاجئاً، حيث قال عنها المحللون إنها رد فعل مباشر على التحدي الاستراتيجي الذي تشكله المصالح الصينية في أفريقيا. فبعد أن هزَّت طوكيو سيفها في نزاعٍ إقليميٍّ على جزر سينكاكو في بحر الصين الشرقي نجدها الآن تحمل نزاعها مع الصين إلى أفريقيا إذ من المرجح أن تصبح أثيوبيا -مقر الاتحاد الأفريقي وقلب القارة الدبلوماسي- الخط الأمامي للتنافس الصيني/ الياباني. مساعدات يابانية يقول شيهوكو جوتو الذي يعمل خبيراً في شؤون طوكيو الدولية بمركز ويلسون: "لقد كان العون الياباني لأفريقيا حتى وقتٍ قريب يمثل جهداً خيرياً أكثر من كونه شيئاً استراتيجياً، ولكن بالنظر إلى التحدي الذي تشكله الصين في مواجهة اليابان فإني أعتقد أن اليابان باتت تشعر بالحاجة لا لتقديم المساعدات على الأرض فحسب بل لأن تصبح تلك المساعدات أكثر وضوحاً للعيان". لقد ظلت اليابان لعدة عقود من الزمان تمثل شريكاً صامتاً في التنمية الأفريقية، فقد كان ذراع عونها الثنائي -ممثلاً في الوكالة اليابانية للتعاون الدولي- يضع بمهارة خطاً رفيعاً بين المساعدات والتدخلات، حيث تقوم بمشاركات صغيرة الحجم في الزراعة والتعليم بيد أنها مشاركات فاعلة يُوظف لها الخبراء الفنيون أو متطوعو التعاون الياباني الخارجي الذين يشبهون بالكاد متطوعي فيالق السلام الأميركي. القوة الناعمة " حجم التبادل التجاري والاستثماري الصيني مع أفريقيا يقدر الآن بحوالى 200 بليون دولار، قافزاً من 10 بلايين دولار في عام 2000، أما حجم التبادل الياباني فيبلغ بالكاد 25 في المائة من حجم التبادل الصيني " لقد أصبحت اليابان -وهي تمارس أكثر أنواع القوة الناعمة نعومةً- أحد أكبر المانحين لأفريقيا بيد أنها الأقل وضوحاً بين المانحين. وعلى العكس، فقد اتبعت الصين بشكلٍ سافر طريقاً كسبياً واكتسابياً، حيث تقوم بتقديم مشاريع البنى التحتية الضخمة للحصول على الموارد إذ ليس هناك من ينافسها على البنى التحتية المطلوبة في البلدان ذات الطرق المتهدمة وإمدادات الطاقة المتقطعة. ولكن ما إذا كانت الصفقات التي يعرضها الصينيون لهذه البلدان مجزية أم لا فهذا أمرٌ آخر. ويُقدَّر حجم التبادل التجاري والاستثماري الصيني مع أفريقيا الآن بحوالى 200 بليون دولار، قافزاً من 10 بلايين دولار في عام 2000، أما حجم التبادل الياباني فيبلغ بالكاد 25 في المائة من حجم التبادل الصيني. وفي عام 2011، كان حجم الاستثمار الصيني المباشر في أفريقيا 3,17 بليون دولار، كما كان حجم الاستثمار الياباني 460 مليون دولار. طواف على القارة ونجد وزير الخارجية الصيني يقوم عادةً بالطواف على القارة الأفريقية في أول زيارة خارجية له في العام الصيني الجديد، ففي غضون أسابيع بعد توليه الرئاسة في مارس 2013، طار الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى تنزانياوجنوب أفريقيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، حيث أعلن عن صفقات بنى تحتية وصفقات استثمارية جديدة ببلايين الدولارات. لقد استعارت استراتيجية اليابان الجديدة استراتيجية الصين، حيث عكست زيارة الرئيس الياباني شينزو آبي في يناير الماضي إلى أفريقيا، في ملامح كثيرة منها، الزيارة التي قام بها الرئيس الصيني شي جين بينغ العام الماضي. ففي ساحل العاج، محطة الطاقة الاقتصادية والسياسية المنتعشة في أفريقيا الفرانكفونية، تحدث شينزو آبي إلى زعماء غرب أفريقيا واعداً إياهم بمبلغ 83 مليون دولار لدعم السلام في منطقة الساحل. وفي موزمبيق، حيث انضم رائدو الطاقة الآسيويون إلى اكتشاف الغاز الطبيعي، أعلن شينزو آبي تمويل محطة توليد كهربائي تعمل بالغاز بتكلفة 174 مليون دولار. صعود اليابان " الميزان التجاري بين الصين ومعظم بلدان أفريقيا يقدم قراءة مُحبطة: فالنفط والغاز والمعادن يتم شحنها إلى الصين، كما يتم استيراد السلع من كل الأصناف من الصين " أما في أثيوبيا، فقد أكد شينزو آبي تميُّز اليابان، حيث تحدث عن صعود اليابان في فترة ما بعد الحرب وعن حالة التطور والاقتصاد الموجه حكومياً الذي يدعم الشركات ويوازن تدخل الدولة مع تنافس القطاع الخاص. لقد وضع شينزو آبي -وهو يتعهد بالتعليم والاستثمار وتوجيه الفنون الإدارية- تصوراً للعون القائم على التوافق الذي يؤكد امتلاك أفريقيا لمستقبلها. وبالرغم من أن كثيراً من الزعماء والاقتصاديين الأفارقة معجبون بأنموذج التنمية الصيني الذي أقال عثرة البلد من وهدة الفقر ليحوِّلها إلى رائدٍ اقتصاديٍّ دولي في أقل من 30 عاماً، لكنهم اكتشفوا أن الاهتمام الصيني الواسع ببلدانهم أصبح يمثل تفريغاً لقطاعاتهم الصناعية الوليدة، حيث أعطاهم المال ولكنه لم يوفر وظائف للشباب الأفريقي القلق. إن الميزان التجاري بين الصين ومعظم بلدان أفريقيا يقدم قراءة مُحبطة: فالنفط والغاز والمعادن يتم شحنها إلى الصين، كما يتم استيراد السلع من كل الأصناف من الصين، ففي العام الماضي أوضح السنوسي لاميدو السنوسي محافظ البنك المركزي النيجيري كثيراً من مخاوف الأفارقة، واصفاً شكل العلاقة الصينية/ الأفريقية بأنها "جوهر الاستعمار". الانتقادات الرئيسة لقد بدا خطاب شينزو آبي في أديس أبابا موجَّهاً بالليزر على الانتقادات الرئيسة المصوَّبة نحو الصين ونحو اندفاعها التجاري داخل أفريقيا. لقد قللت طوكيو من أهمية البُعد التنافسي لاستراتيجيتها في أفريقيا، أما بكين فلم تقلل منها، فقد عقد السفير الصيني لدى الاتحاد الأفريقي، شيه شياو يان، مؤتمراً صحفياً -رداً على زيارة شينزو آبي لإثيوبيا- وصف فيه رئيس الوزراء الياباني بأنه "أكبر مثير للمشاكل في آسيا". وقال إنه يعتبر أنشطة اليابان في أفريقيا جزءاً من استراتيجيةٍ هدفها احتواء توسع النفوذ الصيني في القارة. ولربما كان السفير الصيني صائباً في قوله، فرغم أن طوكيو تعالج مصالحها بحساسية أكثر في ما يبدو، لكن أهدافها في أفريقيا مشابهة لأهداف بكين. لقد دفعت كارثة فوكوشيما اليابان لإغلاق مولداتها النووية وهي تكثف الجهد لإيجاد مصادر جديدة للغاز، فلقد بدأت الصناعة اليابانية قلقة بشأن الصمود طويل الأجل لإمداداتها المعدنية. ضجة دبلوماسية " أفريقيا لديها أكبر رواسب في العالم من المعادن التي لم يتم تنقيبها، فمن المرجح أن تنتج المناطق الكبيرة غير المكتشفة الفحم والنفط والغاز، ولديها الاحتياط الأكبر من الأرض الزراعية غير المطورة " فعندما حظرت إندونيسيا -التي تمد اليابان بنسبة 51 في المائة من حاجتها من النيكل- صادرات المعادن غير المكررة في يناير من هذا العام، أحدثت ضجة دبلوماسية لم تُحسم بعد، كما بدأت الصين تعمل على تقييد إمدادات المعادن الأرضية النادرة الضرورية لصناعة الإلكترونيات المتقدمة. إن أفريقيا لديها أكبر رواسب في العالم من المعادن التي لم يتم تنقيبها، فمن المرجح أن تنتج المناطق الكبيرة غير المكتشفة الفحم والنفط والغاز، ولديها الاحتياط الأكبر من الأرض الزراعية غير المطورة، كما أنها تحظى بالنمو الذي لا تقدم اليابان إلا قليلاً من إمداده، فقد ظلت الشركات اليابانية بعد عقدين من الركود الاقتصادي مترددة في الاندفاع إلى الأسواق الخارجية. ومع نمو الاقتصادات الأفريقية عاماً تلو عام، كان المُستهلَك الملحوظ لليابان -ولم يزل- يتمثل في سيارات الميتسوبيشي والتويوتا من الطراز الثاني التي تقدم في خدمات واسعة مثلها مثل عربات التاكسي. قوة الصين في أديس أبابا، تبدو قوة الصين التجارية بادية للعيان، فالمقاولون الصينيون يقومون ببناء خط مترو أنفاق جديد يمر بوسط المدينة، كما قاموا بإنشاء مقر الاتحاد الأفريقي الذي بناه الصينيون فوق مجموعة محلات تجارية ذات هياكل مائلة من الحديد المموج تقع على طرف وسط المدينة. وتوجد على بُعد 25 ميلاً منطقة صناعية تدعمها الصين، حيث تستضيف المنطقة الصناعية مصنع هواجين للأحذية ومصنعاً لتجميع سيارات ليفان. وتوجد منتجاتٌ لا تحصى من الصناعات الصينية بدءاً من الصنادل البلاستيكية التي تباع في أكشاك الأسواق وحتى المناضد الموجودة في وزارة الصناعة، بل حتى فناجين القهوة التي تستخدم لدى الطقوس اليومية لشرب القهوة بإثيوبيا وقد وُضع على ديباجتها "صُنع في الصين". وبلا شك يصعب على اليابان أن تحدث تأثيراً واضحاً في ظل الوجود الصيني الكبير، فالحفاظ على حسن النية المكتسب بشق الأنفس بين صُناع الساسة الأفارقة والسكان الأفارقة مع السعي وراء المصالح القومية في ذات الوقت قد يكون أمراً أصعب. وجبة أثيوبية " كيمياكي لدى رحلته الثالثة إلى إثيوبيا يقول لم يكن منح الهبات الكبيرة والمنظورة أولوية على الإطلاق، فما نريد فعله هو إحداث نتائج على الأرض " فلدى وجبة إثيوبية تقليدية من "الأنجيرا" في أديس أبابا، يحاول كيمياكي جين؛ رئيس مكتب الوكالة اليابانية للتعاون الدولي بأثيوبيا، أن يتغاضى عن صعوبات التوسع، فعندما سئل عما الذي تغير منذ أن ألقى شينزو آبي خطابه الاستقطابي، أجاب الدبلوماسي كيمياكي قائلاً ببساطة (إن الوضوح أمرٌ مهم جداً بالنسبة لوزارة الخارجية). ويعتبر كيمياكي عامل تنمية ياباني مثالي، ففي البداية تم ابتعاثه إلى إثيوبيا متطوعاً عام 1990، فهو رجل عملي ولا شأن له بالسياسة ومستغرق في التفاصيل العملية للمشاريع. فقد قال كيمياكي لدى رحلته الثالثة إلى إثيوبيا (لم يكن منح الهبات الكبيرة والمنظورة أولوية على الإطلاق، فما نريد فعله هو إحداث نتائج على الأرض). ويصرُّ كيمياكي على أن هذا النهج لن يتغير أبداً مهما تكن المنافسة أو مهما كلفت، وقال (نحن لا نعطي السمكة الكبيرة دون أن نعلِّم الناس أولاً كيف يصطادونها).