خلال فترة إقامتي باليابان في ثمانينات القرن الماضي كانت هناك طرفة متداولة تقول أن يابانياً التقى أحد مواطني دولة أفريقية فسأله: "هل صحيح أن الناس في بلادكم يتخذون من الأشجار منازل لهم؟". رد عليه الأفريقي ساخراً: "نعم ، وأكبر الأشجار حجماً في عاصمة بلادي هي القصر الجمهوري ، أما التي تليها في الحجم فهي منزل سفير اليابان". كانت هذه الطرفة بالطبع طريقة ساخرة للتعبير عن جهل الياباني العادي بالقارة الأفريقية. وقد كنا نضطر عندما نسأل عن موقع السودان للقول بأنه جنوب الأهرام أو أبي الهول ، لشغف اليابانيين وقتها بالسياحة وزيارة الآثار الفرعونية وقد كان الكثيرون منهم يعرفون هذه الآثار دون أن يعرفوا اسم البلاد التي تضمها. ورب ضارة نافعة ، فقد أراحتنا موجة الجفاف التي ضربت إثيوبيا منتصف الثمانينات خاصة بعد أن اشتهرت أغنية المغني الأمريكي الراحل مايكل جاكسون "نحن العالم" فاصبحنا نصف السودان بأنه الدولة التي تقع إلى الغرب من إثيوبيا مباشرة. لا يبدو أن مستوى المعرفة بالقارة الأفريقية على المستوى الشعبي قد تغير كثيراً خلال العقود الثلاثة الماضية ، ولعل قرار الخارجية اليابانية بتعيين إحدى اشهر المغنيات في البلاد كسفير نوايا حسنة لمؤتمر طوكيو الدولي للتنمية في أفريقيا (تيكاد) ، والذي انعقدت دورته الخامسة في مدينة يوكوهاما مطلع هذا الشهر ، يقف دليلاً على ذلك. استعانت الخارجية اليابانية بالمغنية الشهيرة التي عرفت بنشاطها الواسع في مجال الأعمال الخيرية بالقارة الأفريقية لرفع مستوى وعي المواطن الياباني بالشعوب الأفريقية وثقافاتها واحتياجاتها مما يرى الكثيرون أنه ساهم بصورة ما في نجاح المؤتمر المذكور. أما على المستوى الرسمي فقد ظلت الحكومة اليابانية تبدي اهتماماً بالغاً بالقارة الأفريقية وقد كانت الدورة الخامسة للتيكاد مناسبة لتجمع عدد كبير من القيادات الأفريقية ، كما شهدت فترة انعقاد المؤتمر العديد من الانشطة الجانبية وتم تسليط أضواء الإعلام على جلسات المؤتمر وما رافقه من برامج وأنشطة حول أفريقيا مما جعل من المناسبة تظاهرة أفريقية خالصة. ويمثل اختيار ميناء يوكوهاما قيمة رمزية ذات معنى فهي المدينة التي شهدت انفتاح اليابان على العالم في منتصف القرن التاسع عشر بعد عزلتها المجيدة التي دامت لما يقارب الثلاثة قرون. خرجت اليابان من الحرب العالمية الثانية مثخنة الجراح ، تعرضت أراضيها للقصف بقنبلتين ذريتيين خلفتا الكثير من الدمار والمآسي ، وانهار اقتصادها بالكامل وكان جانب كبير من مواطنيها يعاني من المجاعة. لم تمض سنوات قليلة حتى بدأت اليابان تستعيد عافيتها الاقتصادية وانضمت بحلول عام 1964 لنادي الدول الأغنى في العالم ، وقد عُرفت رحلتها من المجاعة والفاقة للرفاه الاقتصادي بالمعجزة اليابانية. وبفضل عضويتها في مجموعة الدول الصناعية الغنية سعت اليابان لتحقيق مصالحها عن طريق القوة الناعمة وتحت حماية المظلة النووية الأمريكية. بدأت الحكومة اليابانية في مرحلة مبكرة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية برنامجاً للمعونات الاقتصادية تمثل في التعويض عن أضرار الحرب التي عانت منها الدول الآسيوية التي وقعت تحت الاحتلال الياباني ، ثم تطور ليشمل كل أنحاء العالم ويغطي جميع مجالات النشاط الاقتصادي والإنساني. وكما هو معلوم فإن برامج العون الاقتصادي للدول الغنية كانت تمثل دائماً إحدى الوسائل المهمة لتحقيق أهداف السياسة الخارجية لهذه الدول ، غير أن هذه البرامج كانت تمثل السلاح الأكثر مَضَاءً في ترسانة الحكومة اليابانية بسبب دستورها الذي حرم عليها اللجوء للعنف في التعامل مع الآخرين. شهدت الفترة منذ نهاية الحرب الباردة في تسعينات القرن الماضي ، وما سادها من انحسار في التوتر الذي كان يصبغ العلاقات بين المعسكرين المتنافسين ، تطورات كبيرة في أشكال ووسائل تنفيذ برامج العون الاقتصادي بين الدول الغنية والدول النامية. أصبح من المألوف أن تصمم هذه البرامج وتنفذ بالصورة التي تصب في مصلحة المواطن البسيط وخاصة الفئات المستضعفة كالنساء والأطفال وذوي الحاجات الخاصة. كما أن التعاون بين الحكومات ومختلف مكونات المجتمع الدولي من منظمات دولية وأهلية ، وشركات خاصة أصبح الركيزة التي تقوم عليها مثل هذه البرامج. في عام 1993 أعلنت الحكومة اليابانية عن انعقاد الجولة الأولى لمؤتمر طوكيو الدولي للتنمية في أفريقيا المعروف اختصاراً باسم "تيكاد"، وقد ضم المؤتمر في عضويته كل الدول الأفريقية والعديد من الدول المانحة بالاضافة للمنظمات الدولية والاقليمية ، ومنظمات المجتمع المدني. وتعتبر الدورة التي انعقدت مطلع الشهر الحالي بمدينة يوكوهاما هي الدورة الخامسة للمؤتمر الذي يجري انعقاده كل خمس سنوات. شارك في المؤتمر 39 من قيادات الدول الأفريقية وترأسه بالتناوب رئيس الوزارء الياباني ، ورئيس وزراء إثيوبيا باعتباره الرئيس الحالي للاتحاد الأفريقي. ويعتبر هذا النوع من التعاون بين الجانبين نقلة مهمة في العلاقات بين الطرفين بالمقارنة لما كان سائداً بينهما خلال عقد الستينات من القرن الماضي عندما كان اليابانيون يعاملون كمواطنين بيض تحت ظل نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. وقد انعكس ذلك سلباً على العلاقات بين الجانبين بالرغم من أن الحكومة اليابانية ظلت تشير دائما لخلو تاريخها من المشاركة في التكالب الاستعماري على القارة. أشار التقرير السنوي للسياسة الخارجية والمعروف باسم "الكتاب الأزرق" والذي تصدره بصفة سنوية وزارة الخارجية اليابانية إلى ثلاثة دوافع تفسر اهتمام اليابان بالقارة الأفريقية وهي ؛ أولا: رغبة اليابان الصادقة في لعب دور عالمي يتناسب وحجمها كثالث أكبر اقتصاد على مستوى العالم ما يكسبها احترام المجتمع الدولي. وقد كان الكثير من المحللين السياسيين ، خاصة خلال فترة الحرب الباردة ، يصفون اليابان بأنها عملاق اقتصادي يقف على سيقان رخوة. ثانيا: الأهمية المتصاعدة للسوق الأفريقية التي تنمو بمعدلات سريعة بسبب زيادة عدد السكان من جهة ، وارتفاع مستوى المعيشة من جهة أخرى. بالاضافة لغنى القارة بالمواد الخام حيث تتوفر كميات هائلة من المواد الضرورية للصناعة اليابانية ثالثا: الوزن الكبير للصوت الأفريقي في المنظمات الدولية وخاصة الأممالمتحدة ، وحاجة اليابان الملحة لهذا الصوت في جهودها من أجل اصلاح الأممالمتحدة وبصفة خاصة مجلس الأمن الدولي. غير أن دافعاً مهماً للتحرك الياباني في القارة الأفريقية لم تتم الإشارة له ضمن الكتاب الأزرق هو الوجود الصيني الكبير في مختلف أنحاء القارة ، فالصين كما هو معلوم أضحت الشريك التجاري الأول لأفريقيا بعد أن تجاوزت الولاياتالمتحدةالأمريكية في عام 2011. وتتركز المنافسة الصينية لليابان في مجال الاستثمار في استخراج المواد الخام التي تحتاجها البلدان من أجل تسيير مؤسساتهما الصناعية الضخمة. ويأتي على رأس قائمة هذه المواد النفط ومشتقاته ، وقد استطاعت الصين أن تستثمر في هذا المجال بعدد من الدول الأفريقية. ومع أن البلدين لا تريدان الدخول في تنافس محموم قد يقود لشئ من التوتر بينهما إلا أن حاجتهما الماسة للمواد الخام وتنافسهما على السوق الأفريقية لا يخفيان على أحد. ويتعرض الوجود الصيني في أفريقيا لحملات الهجوم من جانب العديد من الجهات ، ولعل آخر هذه الحملات تلك المقالات التي نشرها محافظ بنك نيجيريا المركزي والتي ردد فيها الكثير من التهم التي توجه عادة للنشاط الصيني في أفريقيا مثل استجلاب العمالة من الصين وإغراق السوق الأفريقية بالمنتجات رخيصة الثمن ورديئة الصنع. من الصعب بالطبع اتهام اليابان أو الولاياتالمتحدة بأنهما تقفان خلف الحملات التي تشنها بعض الجهات ضد الصين في أفريقيا، غير أنه ليس هناك أدنى شك بأن الدولتين تستفيدان من هذه الحملات. من جانبها فإن الصين لم تتخلف كثيراً عن منافستها حيث قامت في عام 2000 بإطلاق مبادرة تحت مسمى منتدى التعاون الصيني الأفريقي أشبه بالمبادرة اليابانية التي تناولناها في هذا المقال. لم تقتصر جهود الحكومة اليابانية في القارة الأفريقية على الجانب الاقتصادي وحسب ، بل إن رئيس الوزراء عبر عن رغبة اليابان في التعاون مع مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الأفريقي بعد الإشادة بالدور الذي يقوم به المجلس في عدد من الدول التي تعاني من مشاكل أمنية. جاء التعبير عن هذه الرغبة بالرغم من أن رئيسة مفوضية الاتحاد الأفريقي الحالية ، وعلى عكس سلفها ، لا تبدي حماساً للفكرة على حد ما أوردته بعض المصادر الإعلامية. كما أن رغبة رئيس الوزراء جاءت على ضوء مشاركة اليابان في الحرب ضد القرصنة على السواحل الصومالية وإقامة قاعدة صغيرة لهذا الغرض في جيبوتي. وتشارك اليابان كذلك في إطار قوات الأممالمتحدة لحفظ السلام في جنوب السودان بفرقة من سلاح المهندسين الياباني تم إرسالها للدولة الوليدة بناء على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1996 بتاريخ 8 يوليو 2011. وتعتبر المشاركة في جهود حفظ السلام تحولاً في الخط السياسي الياباني حيث كانت الفقرة التاسعة من الدستور تقف ، وحتى وقت قريب ، حجر عثرة في طريق أي مشاركة خارجية للقوات اليابانية حتى وإن كان ذلك في إطار عمليات حفظ السلام الدولية. Mahjoub Basha [[email protected]]