لا تزال تداعيات نية الحكومة بتنظيم استفتاء لسكان دارفور، تثير عاصفة من الجدل والنقاش، وقد انقسم نواب في المجلس الوطني البرلمان حيال إجراء عملية الاستفتاء خلال أبريل المقبل، وتجادل النواب بشكل مكثف حول جدوى الخطوة. وجاء الجدل على خلفية خطاب الرئيس عمر البشير إبان دورة الانعقاد الثانية للبرلمان أخيراً، حيث قال إن الترتيبات تسير سيراً حسناً لإنجاز الاستفتاء الذي سينتظم كل ولايات دارفور خلال أبريل 2016م، ليرسي دعائم المستقبل المتسم بالممارسة السياسية الراشدة في هذا الإقليم". ثم أعقب إعلان البشير في لهجة تأكيدية د. أمين حسن عمر مسؤول ملف دارفور بالحكومة، أن رئيس الجمهورية، سيعلن خلال أيام عن أسماء أعضاء مفوضية دارفور، كما سيعلن عن مرسوم إنشاء المفوضية نفسها، مشيراً إلى أن المفوضية ستشرع فوراً في ترتيب الاستفتاء الذي ينص القانون على إجرائه في مدة أقصاها أبريل المقبل. أسباب موضوعية وكشف د. أمين أن هناك أسباباً موضوعية تسببت في تأخير قيام الاستفتاء، من بينها عدم رغبة الحركات في الإسراع بإجراء الاستفتاء، والمجتمع الإقليمي والدولي اللذان سعيا إلى إقناع أكبر عدد من الرافضين للسلام، بجانب ظروف الانتخابات الأخيرة. ويوضح أمين أن الاستفتاء سيحدد وضع دارفور إدارياً، والاستفتاء منصوص عليه في اتفاقيتي السلام في (أبوجا - 2006) و(الدوحة -2011)، وهو استفتاء إداري لتحديد رغبة أهل المنطقة في أن تكون إقليماً واحداً أم يظل الوضع الإداري على ما هو عليه، وستضمن نتيجة الاستفتاء في الدستور الدائم للبلاد. ولعلنا نحتاج لعمل (فلاش باك)، لنرى كيف بدأت الحكومة التعاطي مع موضوع استفتاء دارفور، ولماذا ظل مجمداً لسنوات، وما الذي دعا لإيقاظه من سباته في هذا التوقيت بالذات. ففي 24 مارس 2011 صرح مستشار الرئيس آنذاك د. غازي صلاح الدين المكلف بملف دارفور أن الحكومة تقوم حالياً بإعداد مسودة قانون الاستفتاء الخاص بالوضع الإداري في دارفور. مقومات أبوجا " حيثيات الحكومة للتوجه لتنظيم استفتاء دارفور كانت لأول مرة في بداية مارس 2011م، بعد تعثر الاتفاق مع حركة التحرير والعدالة بزعامة التجاني السيسي في الدوحة على إنشاء إدارة خاصة بالإقليم، فالحكومة كانت ترفض مثل هذا التوجه " وقال غازي قتها إن ذلك الاستفتاء هو أحد المقومات التي يرتكز عليها اتفاقية أبوجا الموقع مع مني أركو مناوي في عام 2006، وكان حينها الشرتاي جعفر عبد الحكم هو رئيس السلطة الإقليمية المكلف. فقد كانت حيثيات الحكومة للتوجه لتنظيم استفتاء دارفور لأول مرة في بداية مارس 2011م، بعد تعثر الاتفاق مع حركة التحرير والعدالة بزعامة التجاني السيسي في الدوحة على إنشاء إدارة خاصة بالإقليم، فالحكومة كانت ترفض مثل هذا التوجه. وتقول إن الاستفتاء هو الأمثل للبت في هذا الموضوع، بينما يؤكد المتمردون وجوب إعادة سلطة إقليمية موحدة في دارفور. وكشف غازى، في ذلك التصريح أن المفوضية القومية للانتخابات ستشرع في الإجراءات الفنية، واتخاذ التدابير الأولية، وإعداد السجل وغيره من الأمور المتعلقة بالاستفتاء، مشيراً إلى أن الاستفتاء يمثل إرادة سياسية للبت في قضية سياسية مختلف حولها، تتمثل في رغبة أهل دارفور في الإقليم الواحد أو الولايات المتعددة. الموعد المضروب والغريب أن الموعد الذي ضربته الحكومة حالياً لاستفتاء دارفور يصادف شهر أبريل من العام الجارى، وشهر أبريل من العام 2011م، كان هو موعد إجراء الاستفتاء الذي جاء في اتفاق أبوجا، وشهر أبريل كما - يحلو لأستاذنا المرحوم محمد طه محمد أحمد - هو شهر الغبار والأكاذيب، وكان استفتاء دارفور في أبريل 2011 مجرد أكذوبة، فهل يصير أيضاً في أبريل 2016 مجرد أكذوبة. ويبدو أن الحكومة كانت جادة في الاستفتاء الأول، فقد أصدر رئيس الجمهورية مرسوماً بالرقم(4) باسم (مرسوم جمهوري بإجراء الاستفتاء الإداري لتحديد الوضع الدائم لدارفور)، بتاريخ 24/3/2011م، وذلك عملاً بأحكام المادة 58 (1) من الدستور الانتقالي لسنة 2005م، وبعد الاطلاع على المادة 6 (البنود 55-60 شاملة) من اتفاق سلام دارفور. وجاء في ذلك المرسوم أن تقدم في الاستفتاء خيارات الإدارة السياسية لدارفور، كالآتي: الإبقاء على الوضع القائم للولايات، أو إنشاء إقليم دارفور المكوَّن من ولايات. مفوضية الاستفتاء وقد خالف ذلك المرسوم ما جاء به أمين حسن عمر من إنشاء مفوضية للاستفتاء، فقد حدَّد المرسوم أن تقوم المفوضية القومية للانتخابات بتنظيم الاستفتاء والإشراف عليه، ووضع القواعد والإجرءات المنظمة له. وبناءً على ذلك كونت المفوضية القومية للانتخابات لجنة من بين أعضائها لاتخاذ التدابير اللازمة على مستوى الرئاسة والولايات لإجراء الاستفتاء الإداري لدارفور. وشرعت المفوضية في استيفاء مستلزمات الجوانب الإدارية والفنية والقانونية للاستفتاء، بإعداد القواعد العامة والإجرءات المنظمة للاستفتاء استهداءً بالمادة 10(ب) من قانون الانتخابات لسنة 2008م، وتدبير ميزانية الاستفتاء، وإنشاء لجنة عليا للاستفتاء في كل واحدة من ولايات دارفور الثلاث، ومراجعة السجل الانتخابي في كل ولاية على حده، ووضع الجدول الزمني لمراحل الاستفتاء ابتداءً من 20/4/2011 وأن يكون الاقتراع في 6/7/2011م. وفعلاً مضت المفوضية في اتخاذ هذه التدابير، بالتزامن مع مفاوضات الدوحة التي كانت جارية آنذاك حول وثيقة سلام دارفور، وكان الاستفتاء مدرجاً في أجندة المفاوضات، ولذا قررت المفوضية أن تتوقف عن الاستمرار في تنفيذ الاستفتاء، ريثما يتم الاتفاق بشأنه من جديد، وهكذا دخل تنفيذ الاستفتاء في سبات طويل. أبوجا والدوحة " المادة (58) من اتفاقية أبوجا تنص على تنظيم الاستفتاء من قبل المفوضية القومية للانتخابات، لكن اتفاقية الدوحة نصت في المادة (76) منها على تشكيل مفوضية خاصة بالتوافق بين رئيس الجمهورية ورئيس السلطة الانتقالية لدارفور " وفي ظل الخلاف بين أبوجا والدوحة حول من يقوم بالاستفتاء، وفي ظل نص قانون الانتخابات القومية، على أن تنظيم الاستفتاءات والإشراف عليها هو من اختصاصات المفوضية القومية للانتخابات. وتنص المادة (58) من اتفاقية أبوجا على تنظيم الاستفتاء من قبل المفوضية القومية للانتخابات، إلا أن اتفاقية الدوحة نصت في المادة (76) منها على تشكيل مفوضية خاصة بالتوافق بين رئيس الجمهورية ورئيس السلطة الانتقالية لدارفور، ولعله من المفيد القول إن الأولى للحكومة هو تنفيذ ما جاء في أبوجا وقانون الانتخابات القومية، بأن تقوم المفوضية القومية للانتخابات باستفتاء دارفور. فقد نصت أبوجا والدوحة على أن القواعد والضوابط المنظمة للاستفتاء، ستكون وفق القواعد واللوائح التي يحددها قانون الانتخابات. وأبوجا والدوحة نصتا أيضاً على أن يتم إجراء الاستفتاء بمراقبة دولية، وخبرة المفوضية القومية للانتخابات في التعامل مع المراقبين الدوليين صقلتها التجارب منذ انتخابات 2010م، بجانب أن المفوضية القومية للانتخابات هي الجهة المختصة، والأكثر قدرة والأوفر خبرة لمثل هذا الاستفتاء، وهو أمر سيوفر كثيراً من الجهد والمال والتدريب الذي سيتطلبه قيام مفوضية جديدة، إلا إذا كنا نعشق مجرد تكوين المفوضيات.