بإعادة انتخابه لدورة رئاسية جديدة بتفويض شعبي كاسح لحزبه المؤتمر الوطني يدخل الرئيس السوداني عمر البشير مرحلة من تاريخ السودان الحديث تعد الأكثر خطورة بسبب المطلوبات الهائلة التي تواجهها. ويقف بالطبع تقرير المصير لجنوب السودان على رأس هذه المطلوبات إلى ملف دارفور وآمال وتطلعات شعبية كبيرة في استمرار النهضة الاقتصادية والتنموية التي قفزت خطوات ملحوظة خلال العقد الأخير، فضلاً عن أشواق الإسلاميين الذين يصلون إلى سدة الحكم لأول مرة عبر بوابة الديمقراطية. هذه (التركة) المثقلة من الملفات الصعبة تضع البشير وحكومته القادمة أمام مسؤوليات جسام تجاه الشعب السوداني وتجاه ناخبيه بصورة خاصة وتجاه هذا الوطن بصورة أخص في ظل سيطرة حزبه التامة على مقاليد اتخاذ القرار على المستويين التشريعي والتنفيذي وهو إنجاز ما كان المؤتمر الوطني يحلم به منذ نشأة الحركة الإسلامية في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي. سوالب المرحلة الماضية " البشير من حقه تشكيل حكومة يسيطر عليها المؤتمر الوطني بشكل تام، وفي ذلك احترام للتحول الديمقراطي وخيار الشعب السوداني، بيد أن مسيرة التداول السلمي للسلطة في السودان لها تعقيدات خاصة بشكل لا يُمكن من استقرار الحكم لأي حزب منفرد " وتقف أمام بوابة الدخول لإنفاذ مطلوبات المرحلة الحساسة المقبلة قضية شديدة الحساسية وهي اختيار التوليفة المناسبة للطاقم التنفيذي للدولة. ومن المعلوم أن البشير من حقه تشكيل حكومة يسيطر عليها المؤتمر الوطني بشكل تام، وفي ذلك احترام للتحول الديمقراطي وخيار الشعب السوداني، بيد أن مسيرة التداول السلمي للسلطة في السودان لها تعقيدات خاصة بشكل لا يُمكن من استقرار الحكم لأي حزب منفرد. وفي هذا الخصوص يرى المتابعون لمسيرة البشير في الحكم أنه اكتسب خلال العقدين الماضيين تجربة حكم ثرية جداً واستطاع هو وحزبه بمهارة نادرة صياغة معالجات لتعقيدات الحكم التي فرضتها محاصصات اتفاقيات السلام والمصالحة منذ الشريف زين العادين الهندي مروراً باتفاقيات نيفاشا والقاهرة والشرق وأبوجا وغيرها. وإن كان ثمة مطلوبات للعبور بسلام نحو تشكيلة مناسبة فهي ضرورة عدم تكرار سلبيات مشاركة الحركة الشعبية والتجمع الديمقراطي وحركة مني أركو مناوي، حيث أن المشاركة في الحكومة والعمل مع المعارضة في آن واحد يهزم فكرة توسيع قاعدة المشاركة والتي هدفها الأساسي استقرار الوطن. وقد عبّر نائب البشير في المؤتمر الوطني الدكتور نافع علي نافع عن ذلك جيداً بقوله (لا نريد حكومة متشاكسة)، وتصبح بالتالي حالة الانسجام هي الفيصل لإنجاح خطط وبرامج الحكومة الجديدة، ولتنفيذ ما تبقى من اتفاقية السلام الشامل وخاصة التي حالت الخلافات في السابق على إكمالها دون إنجاز مراحلها المحددة بموجب تواريخ معينة في اتفاق السلام. ولا شك أن المرحلة الحساسة المقبلة تتطلب شفافية ومكاشفة الرأي العام وهي متطلبات أساسية تؤشر عادة إلى مدى نجاح أية حكومة، فلا بد من وضع الشارع على حقيقة الأوضاع والظروف الراهنة والابتعاد عن محاولات تضليل الحقائق وتقديم الأمور على غير حقيقتها، فالمواطن السوداني يعي تماماً حجم التحديات وهو مستعد لتحمل المزيد حباً في الوطن وقائده. كما إن المطلوب أن تكون عناصر الوزارة الجديدة من أولئك الذين نالوا ثقة الناخبين، فقد وضح أن الوزير القادم بالانتخاب أكثر في توجهاته لمنفعة عامة الناس. وفي دولة مثل إنجلترا تجد كل عناصر الوزارة من الذين جاءوا عبر صناديق الاقتراع. الاستفتاء.. التحدي الأكبر ويتربع ملف الاستفتاء على قمة مطلوبات وأولويات المرحلة المقبلة وهو الملف الأكثر تحدياً وخطورة بسبب الفترة الزمنية الضيقة، والمطلوب من الحكومة إكمال كافة الإجراءات وفق اتفاق السلام لإقامة الاستفتاء في موعده، وبجانب ذلك عليها تنفيذ البرامج اللازمة لكي تأتي النتيجة إيجابية لمصلحة وحدة السودان، وهذا هو الهدف الإستراتيجي ولن يتحقق إلا ببذل مجهودات جبارة في عدة جوانب أهمها الجانب الاقتصادي. حيث يجب على الحكومة القادمة أن تسعى إلى تحقيق تنمية حقيقية في جنوب السودان والنيل الأزرق وجبال النوبة، كما يجب على الحكومة المنتخبة أن تركز جل جهدها المبذول بجنوب السودان في مجالات الطرق والطاقة والمياه الصالحة للشرب بجانب التعليم والصحة، وكلها مجالات تحتاج في المقام الأول إلى صرف مالي وميزانية ضخمة مما يحتم على الحكومة المنتخبة أن تقوم بنشاط واسع لاستقطاب الاستثمارات المحلية والأجنبية لإنفاذ العديد من المشاريع التنموية بالجنوب. ولا تتوقف المطلوبات في ملف الاستفتاء على الجوانب الاقتصادية وحدها فهناك جوانب سياسية مهمة تتطلب هي الأخرى جهوداً جبارة منها التعامل مع دعاة الانفصال وداعميه على المستويين الداخلي والخارجي، فعلى المستوى الداخلي يوجد فصيل معتبر من الحركة الشعبية يسعى للانفصال، إضافة إلى دعاة الانفصال الشماليين في (منبر السلام العادل). ويرى المراقبون أهمية الاستفادة من الرأي الموجه للسياسة الدولية الداعم لوحدة السودان بجانب القوى السياسية المساندة للوحدة على المستوى الداخلي في التعامل مع هذه المجموعات الانفصالية. ويشيرون إلى أن التعاطي مع الفصيل الانفصالي من الحركة الشعبية يحتاج لمجهود أكبر بإدارة حوار العمل معهم لتحقيق المصالح التي يسعون إليها بالانفصال من خلال السودان الموحد مع إعطائهم كافة الضمانات المطلوبة وربما الاستحقاقات والتنازلات. أما على صعيد داعمي الانفصال دولياً فلابد من تحديد خطط واضحة لكيفية التعامل مع القوى المؤثرة في الخارج الراغبة في فصل الجنوب، وعلى رأسها إسرائيل واليمين المسيحي المتطرف والمحافظون الجدد في الولاياتالمتحدة واللوبي اليهودي والصهيوني فضلاً عن مجموعة مقدرة من منظمات المجتمع المدني. ملف دارفور.. السلام الممكن أما الملف الثاني أمام البشير فهو حل مشكلة دارفور والتي إذا تم النظر إليها عبر بوابة الانتخابات الأخيرة فربما تعطي مؤشراً جديداً وجيداً كان مطلوباً لدى المؤتمر الوطني، وهو وجود مجموعة من النواب تم تفويضهم بصورة ديمقراطية من أهل دارفور، فلذلك لابد من استيعاب هذه المجموعة في الحل مع عدم استبعاد المجموعات التي أُدخلت في الحوار سابقاً، مع الأخذ بالاعتبار أن كل الظروف الآن مهيأة لحل هذه المشكلة، أهمها الرغبة الدولية، والتي انعكس أثرها إلى حد ما على إيقاف الدعم الخارجي بكافة أشكاله للمجموعات المتمردة. تطبيع العلاقات مع تشاد وتكوين القوات المشتركة السودانية التشادية، حرمان هذه الحركات من الملاذ الآمن الذي كانت تلجأ إليه، بالإضافة إلى أن تشاد كانت تمثل معبراً مهماً لوصول الدعم اللوجستي والعسكري، وقد أظهرت تشاد مؤخراً موقفاً حاسماً بطرد زعيم حركة العدل والمساواة من أراضيها، وهو الموقف الذي اعتبره الكثير من المراقبين بمثابة الضربة القاضية لخليل إبراهيم بعد الضربات الموجعة ميدانياً في معارك (جبل مون). وهناك مستجدات أخرى لا تقل أهمية عن انكماش تأثير حركة خليل تتمثل في توحد عدد كبير من الحركات تحت قيادة التيجاني السيسي واستعدادها للحوار. هذا الوضع يفقد حركة العدل والمساواة كثيراً من نقاط القوة التي كانت تعتمد عليها. وسوف يحدث الكثير من الممانعة من حركة العدل والمساواة، ولكن كل ذلك سيكون لحفظ ماء الوجه، وإذا قابلته سعة صدر وأفق من جانب الحكومة وقليل جداً من التنازلات فإن السلام لن يكون بعيداً. تطلعات المواطن لا جدال في أن الإنقاذ خلال الحقبة الماضية لم تكن مرهونة لعهد وميثاق قوي مع الشعب السوداني، مثلما تستمد الحكومة القادمة شرعيتها من الانتخاب المباشر بواسطة جميع أهل السودان، الأمر الذي يحتم عليها الإيفاء بتنفيذ البرنامج الذي رفعه الحزب لاستقطاب دعم وتأييد الجماهير وهو برنامج (استكمال النهضة) الذي أصبح هو التزاماً انتخابياً من المؤتمر الوطني تجاه ناخبيه. ويرى الكثير من المراقبين أن هناك معالجات لم تتم بالشكل المطلوب قامت بها الإنقاذ بشأن تحقيق تطلعات المواطن حيث أهملت مطلوبات المعيشة والصحة والتعليم. وقامت بالتعامل مع هذه المطلوبات الثلاثة وفق السائد من الحضارات، حيث تم التعامل وفق النظرية الاقتصادية السائدة في العالم وهي الرأسمالية. وتمت الاستجابة لمعظم مطلوبات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. فتم تحرير الاقتصاد تماماً وتمت الخصخصة، وتم رفع الدعم عن الخدمات الأساسية في التعليم والصحة والدعم عن السلع في اتجاه إخراج الدولة تماماً من دائرة الاقتصاد. كما أن الانتقال من المبادئ الاشتراكية التي كانت التوجه السائد في السودان وغيره من دول العالم الثالث تم بشكل سريع وجزئي وغير متناغم نحو النظرية الرأسمالية لتغيب مسؤولية الدولة في كل شيء. وحسب معظم الخبراء الاقتصاديين فإن الفكر الاشتراكي والذي فيه مسؤولية الدولة تجاه المواطنين هو الأقرب إلى الفكر الإسلامي، والذي فيه تكون مسؤولية الراعي أمام الله أن يسأله عن البغلة التي عثرت في (العراق) ولم يعبِّد لها الطريق. ويبقى المطلوب أمام البشير ومعاونيه في المرحلة المقبلة إعمال الفكر والاجتهاد للخروج بوصفة توائم بين مسؤولية الدولة عن مواطنيها وعن نجاح نظرية تحرير الاقتصاد. أشواق الإسلاميين " ينتظر الإسلاميون أن تتمكن حكومتهم القادمة من معالجات الكثير من الأخطاء التي صاحبت تنفيذ أيدولوجيتهم الفكرية على أرض الواقع عبر ما يسمى ب(المشروع الحضاري) والتي من أبرزها عدم توافر رصيد فكري واسع وتفصيلي يعالج المناحي كافة من الحياة الاجتماعية وعلاقة المجتمع بالدولة حتى التمكين وإدارة الدولة " لا يمكن النظر إلى مطلوبات المرحلة المقبلة بعيداً عن المنطلقات الفكرية للمؤتمر الوطني المتمثلة في أطروحات الحركة الإسلامية السودانية التي ربما تكون قد نجحت من بين الحركات الإسلامية في العالم العربي التي وصلت إلى السلطة وقدمت واحدة من أنجح التجارب مقارنة بنظيراتها في تركيا وإيران ومصر والجزائر وفلسطين وباكستان. وينتظر الإسلاميون أن تتمكن حكومتهم القادمة من معالجات الكثير من الأخطاء التي صاحبت تنفيذ أيدولوجيتهم الفكرية على أرض الواقع عبر ما يسمى ب(المشروع الحضاري) والتي من أبرزها عدم توافر رصيد فكري واسع وتفصيلي يعالج المناحي كافة من الحياة الاجتماعية وعلاقة المجتمع بالدولة حتى التمكين وإدارة الدولة. وعلى الرغم من شعور الحركة الإسلامية بالحاجة إلى ذلك لكن طيلة السنوات الماضية اختصرت الجهود في هذا الصدد في مستشارية التأصيل والتي لم يتعد جهدها النصح للرئاسة والجهاز التنفيذي أو مجالس الفتاوى الشرعية في البنوك. وبالتالي فإن المطلوب في المرحلة المقبلة وجود اجتهاد فكري عصري وجريء يحدد الرؤى في مناحي الحياة كافة وعلاقات الدولة الخارجية والداخلية. ولا يمكننا أن نبعد من المطلوبات رغبة الإسلاميين في الخروج من فخ القوات الهجين، التي لم يكونوا يتمنون أبداً أن تجد لها موطئ قدم في السودان ناهيك عن دخولها في عهد حكومة تابعة لهم. ويرى كثير منهم أن الرئيس البشير الذي قاد الحركة السياسية ضد القوات الهجين والقوات الدولية، كان يعرف ويعلم أن هذه القوات تمثل طعنة في صميم الكبرياء السوداني، وطعنة في صمام الأمن الوطني، وطعنة في قدرات وكفاءة ونزاهة المؤسسة العسكرية السودانية، وطعنة في حكمة السياسة السودانية. ولكن أحياناً لا يكون أمام القيادة إلاّ (الاختيار بين السيئ والأسوأ). وتلك قاعدة ربما أصبحت قانوناً لإدارة مخاطر المرحلة المقبلة.